صاروخ فرط صوتي وقنبلة خارقة: لماذا تُظهر تركيا عضلاتها العسكرية الآن؟
أحمد علي أحمد علي

صاروخ فرط صوتي وقنبلة خارقة: لماذا تُظهر تركيا عضلاتها العسكرية الآن؟

وسط لحظة إقليمية مشحونة بالتوترات، رفعت تركيا الستار عن قوةٍ نارية جديدة أذهلت المراقبين وأثارت عناوين الصحف. ففي معرض دولي للصناعات الدفاعية بإسطنبول، كشفت أنقرة عن صاروخ باليستي فرط صوتي محلي الصنع لأول مرة، تلاه استعراض قنبلة جوية خارقة للتحصينات بقدرات تدميرية هائلة. وبطبيعة الحال، لم يكن هذا الاستعراض مجرد عرض تقني عابر، بل رسالة لها مدلولاتها العسكرية. فالدول نادراً ما تكشف عن أوراقها الرابحة من الصواريخ والقنابل إلا لهدف أبعد من الإبهار – هدفٌ يتجاوز حدود تركيا ليصل صداه إلى خصومها في الإقليم. فلماذا اختارت أنقرة هذا التوقيت بالذات لتُري العالم أسلحتها الجديدة، وما الرسائل التي تحملها هذه الخطوة جيوسياسياً؟

هاجس الخطر يدفع أنقرة للتسلُّح

قناعة القيادة التركية اليوم هي أن بيئة التهديد حولها تتصاعد، وهذه المخاوف الاستراتيجية دفعت أنقرة إلى تسريع خطى تعزيز قدراتها العسكرية والتكنولوجية. وفي معرض «آيدف 2025» بإسطنبول، جاء الكشف عن الصاروخ الباليستي «طيفون بلوك-4» ليعكس هذا التوجه. الصاروخ الجديد يبلغ طوله عشرة أمتار ويزن أكثر من 7 أطنان، وهو نسخة مطورة فائقة السرعة من صاروخ «طيفون» السابق، مما يجعله أبعد مدىً وأقوى تأثيراً من أي صاروخٍ أنتجته تركيا محلياً من قبل.

إلى جانب الصاروخ، كشفت تركيا أيضاً عن قنبلة جوية ثقيلة من طراز «غازاب» وأخرى خارقة للتحصينات اسمها NEB-2 HAYALET. هذه القنابل البالغ وزن كل منها نحو طن تقريباً تمثل هي الأخرى استجابة لهاجس التهديد المتزايد. القنبلة «غازاب» وُصفت بأنها أقوى قنبلة تقليدية طورتها تركيا على الإطلاق، ذات قدرة تدميرية هائلة بفضل تصميمها الذي يشتمل على شحنات تجزئة متعددة تزيد من نطاق وتأثير الانفجار. أما القنبلة «الشبح» الخارقة للتحصينات (NEB-2) فهي مصممة لاختراق أعماق الملاجئ الخرسانية وتدمير المخابئ المحصنة تحت الأرض. في اختبارات رسمية، تمكنت هذه القنبلة من اختراق أكثر من 7 أمتار من الخرسانة المسلحة عالية الصلابة قبل أن تواصل طريقها مخترقةً طبقات أخرى، متجاوزةً بذلك قدرات قنابل أمريكية نظيرة قياسية بحسب مصادر تركية. ومثل هذه القدرة تعني أن أي خصم يفكر في الاحتماء بالأنفاق أو الدشم العميقة عليه أن يعيد الحسابات؛ فالذخائر التركية باتت قادرة على الوصول إليه في عقر تحصيناته.

ينبع حرص أنقرة على تطوير هذه القدرات جزئياً من رغبتها في تخفيف الاعتماد على الحلفاء الخارجيين في تسليحها. فيبدو أن تركيا أدركت خلال السنوات الأخيرة حدود ما يمكن أن يوفره لها حلفاؤها التقليديون في لحظات الاختلاف السياسي. فعلى سبيل المثال، واجهت صعوبات في شراء أنظمة دفاعية متقدمة من الغرب بسبب اعتبارات سياسية، ما دفعها للتوجه شرقاً (شراء منظومة S400 الروسية) ثم الاستثمار بكثافة في صناعاتها المحلية. ويشير خبراء الدفاع إلى أن استثمار تركيا في تقنيات الصواريخ المتطورة هو جزء من مسعى أكبر لتحقيق الاكتفاء الذاتي وزيادة هامش المناورة الاستراتيجية لأنقرة. بعبارة أخرى، تشعر تركيا بتهديدات أمنية متنامية، لكنها لا تريد أن تجد نفسها رهينة قرار دولة أخرى إذا حانت لحظة المواجهة. وهذا الإحساس بالمخاطر المحدقة هو ما يدفع عجلة سباق التسلح التركية الحالية.

 

رسالة تحذير باتجاه «إسرائيل»

على الرغم من أن استعراض الصاروخ فرط الصوتي والقنبلة الخارقة يحمل أبعاداً ردعية عامة ضد أي خصم محتمل، إلا أن الرسالة التركية موجهة ضمنياً بشكل خاص نحو كيان الاحتلال «الإسرائيلي». فـ«إسرائيل» تُعتبر في نظر أنقرة المنافس الإقليمي الأبرز الذي قد يهدد مصالحها أو يتجاوز «الخطوط الحمراء». وفي السنوات الأخيرة، ورغم التحسن النسبي في السابق في العلاقات الدبلوماسية بين تركيا و«إسرائيل»، فقد ألقى «طوفان الأقصى» بظلاله على هذه العلاقات، وقد عبّر الرئيس إردوغان ذات مرة عن استعداده لاتخاذ مواقف صارمة دفاعاً عن الفلسطينيين – إلى حد التلويح بإمكانية التدخل لمنع «مجازر إسرائيلية» بحقهم. وهذه المواقف وضعت البلدين على مسار تصادمي محتمل، حتى أن لجنة رسمية «إسرائيلية» (لجنة ناغل)، شكّلها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، كانت قد درست في وقت سابق احتمال اندلاع حرب مستقبلية بين «إسرائيل» وتركيا على النفوذ في «الشرق الأوسط» في ظل سعي أنقرة لفرض نفسها كقوة مدافعة عن العرب والمسلمين في المنطقة.

من هذا المنطلق، يمكن فهم استعراض أنقرة لقدراتها الجديدة كمحاولة لتوجيه إنذار مبطن إلى «إسرائيل». فحين تكشف تركيا عن صاروخ باليستي بعيد المدى يمكنه – وفق التقديرات – أن يصل إلى قلب «إسرائيل»، فإنها عملياً تقول: «نحن أيضاً لدينا اليد الطولى ولا يمكن تجاهلنا عسكرياً». والصاروخ «طيفون-4» مصمم تحديداً لاستهداف منظومات الدفاع الجوي والمراكز الحساسة لدى الخصم، ما يعني أنه قادر نظرياً على تهديد شبكات الدفاع «الإسرائيلية» المتطورة إذا اقتضت الضرورة. أضف إلى ذلك القنبلة الخارقة الجديدة، والقصد واضح: حتى الملاجئ العميقة تحت الأرض، سواء أكانت مواقع قيادية أو مخابئ أسلحة استراتيجية، لن تكون بمأمنٍ إذا تصاعد الصراع. إنها معادلة ردع جديدة تحاول تركيا إرساءها في مواجهة التفوق النوعي «الإسرائيلي» التقليدي. وكما علّقت صحيفة «آسيا تايمز» في تحليل لها، فإن إطلاق تركيا لصاروخ فرط صوتي كهذا يمثل «قفزة جريئة في إسقاط القوة إقليمياً، تعزز ردعها، وتلقي بقفاز التحدي أمام خصوم مثل إسرائيل».

بطبيعة الحال، «إسرائيل» تراقب هذه التطورات عن كثب. فرغم أنها تمتلك أحد أقوى الجيوش وأنظمة الدفاع الجوي في العالم، فإن ظهور لاعب إقليمي بحجم تركيا مزوداً بتقنيات صاروخية متقدمة يفرض عليها حسابات جديدة. فخلال صراع عسكري قصير سُمي بـ «حرب الـ 12 يوماً» في حزيران/يونيو من العام الجاري 2025، تذوقت «إسرائيل» خطر الصواريخ عندما أمطرتها إيران بوابلٍ باليستي - فرط صوتي أدى لخرق دفاعاتها. وهذا الواقع أبرز حقيقة مفادها أنه حتى دولة متقدمة كـ «إسرائيل» ليست منيعة تماماً أمام تهديد هذه الصواريخ.

 

صدى دولي لاستعراض أنقرة

لا تقتصر ارتدادات الخطوة التركية على النطاق الإقليمي فحسب، بل تتجاوزها إلى المسرح الدولي وتوازناته المعقدة بين أنقرة وكل من واشنطن وموسكو. فتركيا وإن كانت قوة إقليمية صاعدة، إلا أنها أيضاً عضو في حلف الناتو، وتحركاتها العسكرية الدقيقة تُراقب بعين حذرة من الحليف الأميركي. من جهة، يرى بعض الاستراتيجيين في واشنطن أن اندفاع تركيا نحو تعزيز قدراتها الصاروخية الفرط صوتية قد يخلق حالة عدم استقرار جديدة ويضع تماسك الناتو أمام اختبار صعب. إذ تخشى الولايات المتحدة أن يؤدي سباق التسلح الإقليمي – بمساهمة من عضو في الحلف – إلى إشعال شرارة مواجهات غير محسوبة، أو أن يُغري دولاً أخرى (السعودية ومصر) باللحاق بركب التسلح الصاروخي المتقدم. ثم إن امتلاك أنقرة لصواريخ تصل إلى مدى يتجاوز ألف كيلومتر يثير تساؤلات حول عقيدتها الدفاعية: هل سيكون هدف هذه الصواريخ ردع أعداء خارج نطاق مظلة الناتو التقليدية، أم أن تركيا تطمح أيضاً لتعزيز استقلاليتها الاستراتيجية حتى لو تعارض ذلك أحياناً مع الرؤى الأمريكية؟

لا يخفى أن العلاقات التركية-الأميركية شهدت توترات في الأعوام الماضية، أبرزها أزمة شراء أنقرة لمنظومة S-400 الروسية التي اعتبرتها واشنطن خروجاً عن الصف. وبالتالي، فإن استعراض تركيا لقدراتها المحلية المتطورة يرسل أيضاً رسالة مبطنة لواشنطن بأنها قادرة على تطوير ترسانتها بنفسها إذا تعثرت الشراكات والتفاهمات الأمنية مع الغرب.

بالمحصلة، نحن أمام مشهد إقليمي أعادت تركيا رسم بعض ملامحه عبر هذه الرسائل الصاروخية والقنابل الخارقة. فعلى المستوى المحلي والإقليمي، أرادت أنقرة طمأنة حلفائها وشعبها بأنها يقظة ومستعدة لأي طارئ، وفي الوقت نفسه تحذير خصومها من مغبة الاستهانة بها. أما دولياً، فقد أكدت تركيا أنها تمضي في طريقها نحو تعظيم أوراق قوتها الذاتية حتى وهي تناور بين العمالقة شرقاً وغرباً. ويبدو أن رهانها أن استقلالية قرارها العسكري وتطوير قدراتها الردعية سيكسبها احترام الجميع، ولو أنه يثير بعض المخاوف.

وربما الرسالة الأهم التي أرادت أنقرة إيصالها لجميع الأطراف هي أن زمان التفوق العسكري الأحادي في «الشرق الأوسط» قد ولّى؛ فهناك قوة إقليمية كبرى تفرض حضورها ووزنها، وهي رسالة سمعها القريب والبعيد، وبالتأكيد وصلت إلى آذان وأذهان صناع القرار في تل أبيب.