لماذا تعارض واشنطن فتح تحقيق مستقل حول تفجير «السيل الشمالي»؟
تبقى قضية تفجير أنابيب السيل الشمالي محطّ اهتمام دولي كبير، فحتى اللحظة وُضِعَتْ على الطاولة عدّة روايات حول مَن وقفَ وراءه وكيف تمّ تنفيذه، وهو ما دفع موسكو للضغط على الأمم المتحدة بهدف فتح تحقيق مستقل لفهم ملابسات هذا الهجوم، لكن المساعي الروسية تلقى ممانعة شديدة، فما السبب؟
أعلنت ماريا زاخاروفا الناطقة باسم الخارجية الروسية أنّ موسكو تعمل في نيويورك بشكل متواصل حول مشروع قرار روسي في مجلس الأمن، بهدف تكليف الأمين العام للمنظمة بإنشاء لجنة دولية مستقلة للتحقيق في ملابسات تفجير خطوط أنابيب الغاز. وأوضحت زاخاروفا أن الوفد الروسي عقد أربع جولات من المفاوضات للوصول إلى نصٍّ مقبول لجميع أعضاء مجلس الأمن، مؤكدةً أنه إذا رفضت الدول الغربية العمل البنّاء على مشروع القرار، فإنّ هذا سيشير إلى خَلْقٍ متعمَّد للعقبات أمام إثبات الحقيقة حول قضية الهجمات الإرهابية على «السيل الشمالي».
لماذا الممانعة؟
السرّ وراء الممانعة الشديدة لفتح تحقيق دولي مستقل حول التفجيرات هو أنّ هذا العمل يُعتَبَر عملاً عدائيّاً يرقى لمستوى إعلان حرب، فمَن خطَّطَ ونفَّذَ العملية التي أتلفتْ خطوط الأنابيب أضرَّ بمصالح روسيا وألمانيا بشكلٍ كبير، ويذهب البعض لاعتبار هذه العملية بمثابة جريمة حرب نظراً لأنها استهدفت مشروعاً مدنياً. وانطلاقاً من هذه الفكرة ستكون أيُّ دولة وقفتْ وراء هذا التفجير أو سهّلتْ تنفيذَه بوضعٍ صعب على الساحة الدولية وربما تكون عُرضَةً لردِّ فعلٍ عسكري من المتضرِّرين أو إجراءات قاسية أخرى. لكن المشكلة تبدو أكثر تعقيداً من ذلك وخصوصاً إذا علمنا أنّ الغرب وجَّه في البداية أصابعَ الاتهام إلى روسيا دون تقديم دلائلَ كافية، ثم جاء التحقيق الاستقصائي الذي قدّمه الصحفي الأمريكي الشهير سيمور هيرش الذي أعطى تفاصيلَ وافية لتوجيه اتهاماتٍ لكلٍّ من الولايات المتحدة وتحديداً إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، بالإضافة إلى تعاونٍ مباشر من قِبل النرويج في تنفيذ العملية. بعدها جرى تداولُ معلوماتٍ على نطاقٍ واسع تفيد بأنّ الحكومة الألمانية حصلتْ على تحذيرٍ من الاستخبارات الأمريكية قبل تفجير الخط، وربّما جرى إطـْـلاع المستشار الألماني على النوايا الأمريكية لتنفيذ عملية من هذا النوع، ولَمْ تقمِ الحكومة الألمانية بأيِّ عملٍ استباقيٍّ لمنعها، ولَزِمَتْ الصَّمتَ بعد تنفيذها. وصولاً إلى التقارير التي تروّجها الإدارة الأمريكية مؤخراً حول تورّط مجموعةٍ أوكرانيةٍ معاديةٍ لروسيا في هذه العملية دون عِلم الحكومة الرسمية في كييف بهذه النوايا!
أزمة الولايات المتحدة!
ما يثير الانتباه في هذه التقارير الأمريكية هي أنها توجِّهُ أصابع الاتهام إلى أفرادٍ مستقلّين لا دولَ تقفُ وراءهم، في الوقت الذي يوضِّحُ خُبَراءُ عسكريون إلى جانب سيمور هيرش أنّ تنفيذ عمليةٍ بهذا الحجم يتطلّب وجود مجموعة عالية التدريب واسعة التغطية الاستخباراتية مع معدّاتٍ خاصّة لتنفيذها، وتحديداً في منطقة البلطيق التي يُفترَضُ أنها تخضع لأعلى درجات المراقبة وخصوصاً في أوقاتٍ حسّاسةٍ كهذه. فالرواية الأمريكية الضعيفة تبدو بوصفها محاولةً لإبعاد الشُّبهات عن بايدن وفريقه، فبعد أنْ نشر هيرش تقريرَه المشار إليه حدثتْ بلبلةٌ كبيرة في واشنطن على عدّة مستويات؛ الأول، أنّ الإدارة الأمريكية - إنْ ثبتَ تورُّطها فعلاً في هذه العملية - قامتْ باستفزازٍ عدائيّ ضدّ دولةٍ نووية يرقى لإعلان حربٍ دون الرجوع إلى الكونغرس الذي يفترض أنْ يكون له رأيٌ حاسمٌ في مسائلَ حسّاسةٍ كهذه. وهو ما أكّده عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري، مايك لي، الذي أشار إلى أنّ الإدارة الحالية أخلّتْ بقواعد التعامل بين السلطة التنفيذية والتشريعية، والتي تفرض على إدارة بايدن إحاطة «مجموعة الثمانية» في الكونغرس بعمليّات من هذا النوع، المجموعة التي تضمّ زعيمَي الحزبين في كلا مجلسَي الكونغرس بالإضافة إلى رؤساء لجان الاستخبارات في المجلسين ونوّابهم. وهذا ما يؤكّد لي أنَّه لم يحصل. والمستوى الثاني الذي يمكن الحديثُ عنه، هو تورّط واشنطن بعملٍ عدائي ضد حلفائها في أوروبا الذين تلتزم بوجودها في الناتو بالدفاع عنهم لا تفجير بنيتهم التحتية.
احتماليّة تورّط الولايات المتحدة في التفجيرات سيكون لها تداعياتٌ كبرى، ستبدأ من الداخل الأمريكي المنقسم الذي ستدفعه هذه المسألة إلى مستوياتٍ أعلى من الصراع. من جهة أخرى ستضرّ هذه الاتهامات بشكلٍ كبير في علاقة الولايات المتحدة مع أوروبا وخصوصاً أنّ المسألة لم يعدْ من الممكن إخفاؤها تحت الطاولة بل باتتْ الحكوماتُ الأوروبية مضطرّة لتقديم إجاباتٍ أمام شعوبها وخصوصاً الحكومة الألمانية التي قد تكون على عِلمٍ بتفاصيلِ هذه العملية التي أضرّتْ بمصالح الشعب الألماني وكلّفتْ الخزينةَ مبالغَ ضخمة. وأخيراً ستجد الولايات المتحدة نفسَها مسؤولةً أمام روسيا التي سيكون لها الحقُّ باتخاذ الإجراء المناسب للردّ على أعمال واشنطن العدائية. وخصوصاً أنّ الرئيس بوتين اعتبر أنّ الرواية الأمريكية حول ضلوع مجموعةٍ أوكرانيّة بالتفجيرات «محضُ هراء» مؤكِّداً أنّ «تنفيذ مثل هذا التفجير بمثل هذه القوة وبهذا العمق، يحتاج لخبراءَ مدعومين من قبل الدولة التي تمتلك التكنولوجيّات الـمُعِيْنة». مضيفاً أنه لا يستبعد أبداً تورّط الغرب بهذه العملية وأنّ الولايات المتحدة لها مصلحةٌ في مثل هذه الحوادث.
تنقلُ تصريحات الرئيس الروسي المسألةَ إلى أعلى المستويات، فإعلانُ هذا الموقف من رأس الهرم في الدولة يعني أنّ روسيا عازمةٌ على ملاحقةِ المسؤولين عن هذه العملية التي لا يمكن أنْ تبقى دون ردّ، وهو ما سيكون له تبعاتٌ كبرى على الولايات المتحدة لا تنحصرُ بالضغط والتصريحات السياسية.