الجبهة بقيادة «تاريخية»... هل يكفي؟

الجبهة بقيادة «تاريخية»... هل يكفي؟

ما يحصل من تحولات وما يتطور من ظواهر تاريخية جديدة هو مِن الغنى لدرجة أنه لم يتم بعد التقاط معانيه الكافية لدى الوعي العام عالمياً. وكلّه تحت عنوان عام يقول به حتى أعتى منظرّي العالم القائم - وهو عنوان «التحوّل الحضاري». وفي هذه المادة سنمر على ظاهرة تشكّل الجبهة الحضارية التي قال بها منذ عقود القيادي الشيوعي الإيطالي «بالميرو تولياتي» ومداها الراهن وما تعنيه لتشكل فضاء سياسي جديد.

تولياتي والجبهة الحضارية مجدداً

لن نتوسع هنا في طرح تولياتي، ويمكن مراجعة طرحه من خلال مواد سابقة جرى فيها تناول بعض أفكار تولياتي حول الجبهة الحضارية ومصير الإنسان كنوع (في استعادة لـ «التهديد الحضاري ومصير الإنسان» لدى تولياتي 3،2،1). ولكن ما يهمنا هو فكرة مركزية تؤسس لطرح تولياتي السياسي، هو كون التهديد النوعي الحاصل للإنسان يهدد النوع والمجتمعات والدول والحضارة البشرية على الأرض (وهو اليوم أضعاف أضعاف ما كان عليه أيام صياغة تولياتي لفكرته) يتطلب تجاوز الطروحات «الاقتصادوية-الطبقية-الأيديولوجية» ضيقة الأفق، نحو تشكيل جبهة حضارية قادرة على توحيد القوى «المتضررة» من مشروع التدمير الروحي والمادي. وهذه القوى حسب تولياتي (أيّامها) موجودة وواسعة. وهذه الجبهة حسب تولياتي يجب أن تبقى مسترشدة بمشروع علمي تاريخي جذري قادر على طرح النموذج الحضاري البديل عن النموذج القائم الذي في جوهره نموذج استهلاكي بضاعي هو المؤسس لكل مظاهر التدمير المادي والروحي. ولهذا تكمن في قلب طرح تولياتي القوى القادرة من موقعها النظري-الفكري-الفلسفي على لعب دور مركزي في هذه الجبهة. ولكن ماذا حصل لهذه الجبهة اليوم؟

ما بين التجريب والنظرية

في مواد سابقة قلنا إن انكشاف جوهر النظام الرأسمالي (كنظام تدميري للحياة) للعين العادية مدفوعاً بحدة التناقض ووصوله (التناقض) إلى حدّه التاريخي والحاجة إلى انتقال نوعي، يفرض الاستنتاج بأن الوعي بغض النظر عن خلفيته النظرية السياسية والأيديولوجية قادر على أن يعكس حاجات تجاوز هذا النظام في أزمته (وهذا الافتراض كان قد تنبأ به إنجلس مبكراً تحديداً في كتاب «ضد دوهرينغ»). وهذا يفترض بأن غياب الخلفية النظرية السياسية والأيديولوجية الكافية لا يعني أن القوى الاجتماعية الفاعلة (والحاملة لقضايا ملموسة مطروحة للحل) غير قادرة على التقاط الخط العام وحاجات الواقع. وأغلب هذه القوى اليوم تكتشف ذلك الخط العام بالـ«تجريب»، وتطور من أدواتها النظرية على وقع التجريب. ومن هنا ربما جاء التأخر في عمل هذه القوى على الكشف المبكر عن حاجات التطور في شكلها النظري المتبلور، وهذا ما يعطي للمرحلة الراهنة جانباً من طبيعتها التي يَفتقد إلى وعيها العديدُ من القوى التي تدعي الثورية وتقف على الجانب الخاطئ من التاريخ في موقفها المتوجس والمتردد والمتخوف والذي يعتمد على موقف «الصفاء النظري» لمرجعية نظرية لا تنتمي إلى المرحلة ولا إلى إحداثياتها المعقَّدة.

الجبهة في تطورها التجريبي-النظري

ما سبق لا يعني الغياب المطلق لأي مستوى نظري عالمياً يساهم في تطور الجبهة الحضارية، فالكثير من «موروثات» المراحل السابقة ما زال حاضر نظرياً، وما زال يفعل فعله في عقل وممارسة القوى المختلفة، من دول وتنظيمات. هذا الموروث النظري وخصوصاً العام منه يعوّض عن غياب نسبي للعقل المادي التاريخي لدى الكثير من القوى الفاعلة اليوم من موقعها التي هي فيه، وتحديداً ضمن أجهزة الدولة (وجيوشها) التي هي أكثر الأجهزة الاجتماعية تنظيماً نسبة لباقي التنظيمات الاجتماعية التي ترهّلت خلال عقود الليبرالية قبل أن تستطيع تطوير نفسها بشكل كاف بما يتلاءم مع التحولات، ونقصد بذلك الأحزاب بشكل خاص.
هذه المرجعية النظرية الموروثة والجاهزة واضحة في خطاب القوى الفاعلة عالمياً، والتي تخوض مواجهة مشروع التدمير الحضاري الشامل، ولكن ما هو حاضر أيضاً هو مدى عمومية الطرح ولا كفايته لحاجات التطور الراهنة. فهو كما يتم تقديمه يسترشد بعناوين عامة حول الإنسانية والعدالة وحماية الطبيعة والتناغم معها، والوحدة بين المجتمعات... وهذا سببه هو أن الموروث النظري-السياسي لم يتطور بشكل كاف في مراحله السابقة وبالتحديد بالمقارنة بما وصل إليه في أعلى تطور له خلال مراحل الصعود الثوري. ولا نقول هنا إن الطرح المتطور لتجاوز حضارة الانقسام الطبقي غير موجود، بل هو موجود في كلاسيكيات الفكر والسياسة، ولكن لم يجر الكشف عنه بالشكل الكافي اليوم (وتطوير برنامجه السياسي العملي الملموس)، ولا حتى ضمن مراحل الصعود الثوري انطلاقاً من حاجات تلك المراحل.
إذاً، إنّ الموروث النظري السياسي غير كاف لمهام المرحلة العملية، ومن هنا اتساع مساحة «التجريب». ولكن ولكون الواقع شديد الانفجار ونظراً لاتضاح جوهره، فإن تطوير هذا الموروث يحصل، ولو بشكل غير كاف اتساقاً مع تسارع وحجم التهديد.

اختبار ما سبق

إن اختبار ما سبق في حقل التاريخي والسياسة اليوم يسمح بقراءة تحولات سياسية وولادة ظواهر سياسية يعتبرها البعض صادمة وغير مفهومة. ومن قال إن الجديد التاريخي يجب أن يكون تكراراً للـ«مفهوم»؟
من هذه الظواهر التي جرى مؤخراً التركيز عليها في قاسيون هو موقع اليمين واليسار ربطاً بمواجهة مفاعيل أزمة الإمبريالية، ليس في دول الأطراف فقط، بل حتى في المركز (أوروبا مثالاً بارزاً). وهذا «التلاقي» في المواقع، بغض النظر عن كيفية التعبير عنها وعن اختلاف البرامج في مواجهة الأزمة، هو بحد ذاته تعبير عن الحاجة لجبهة واسعة تتجاوز التحديدات السياسية السابقة. فكيف نفهم مثلاً التقاء حزب يميني في دولة أوروبية ما مع حكومة عسكرية في أفريقيا مع روسيا والصين ودول البريكس، مع تجمعات دينية وعلمية في مختلف دول العالم، مع تجارب المقاومة، مع قوى ثورية ماركسية وعمالية ونقابية وثقافية انطلاقاً من إحداثيات وتحديدات الفضاء السياسي القديم؟ لا يمكن طبعاً، ومن يقوم بذلك يحكم على نفسه بأن يكون خارج وضد التاريخ.

القيادة التاريخية

الجبهة التي قال بها تولياتي، وأيضاً فيديل كاسترو، حاصلة، ولكن بشكل أعقد وأكثر تركيباً. وبشكل أساسي، فإن التاريخ هو من يفرض تشكل تلك الجبهة، والواقع الموضوعي وحاجاته هو من «يقود» تشكيلها. أليس هذا من مقولات المادية التاريخية الأساسية؟ ونقصد بذلك بأن الوعي هو انعكاس للواقع. وكيف إذا كان الواقع فاقعاً ومكثفاً وواضحاً لدرجة عالية بحيث يصير انعكاسه النظري التجريدي والتعميمي أكثر سهولة. مجدداً، إن غياب أطراف «واعية» كفاية بحاجات الانتقال الحضاري وقادرة على تقديم بديله الناضج عملياً لا ينفي حصول الانتقال بشكل تجريبي. ولكن لا يمكن أن يحصل الانتقال بشكله المطلوب دون حصول انتقال نظري، وهذا سيحصل أيضاً نتيجة ضرورات تجريبية، ولكن مع مساهمة واعية من بعض القوى الفاعلة الواعية نظرياً وفكرياً في الدفع باتجاهه مسبقاً. ومن هنا الضرورة لطرح فكرة الجبهة الحضارية والتأسيس لبرنامجها العملي، أي برنامج ما بعد حضارة الليبرالية وما بعد الحداثة، ونسختها التدميرية الراهنة. فالتاريخ على حد تعبير لينين يحتاج إلى دفعة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1180