الحرب الفكرية الأيديولوجية المتعاظمة وتجاوز الرأسمالية
مجدداً، وعلى الرغم من تعقيد المرحلة وغنى «مادتها»، بل بسبب ذلك بالتحديد، فإنّ سمة كونها تكشف عن جوهر حركة المجتمع نفسه في ضرورته وتجريدها النظري، تساعد وتسمح بـ«تجاوز» هذا التعقيد لصالح الوضوح و«التبسيط». وهنا نظرة في ازدياد الوضوح في المادة التاريخية في ميدان الخطاب السياسي.
في الموقع النظري ومنهجيته
إن الخط التاريخي العام وضرورة المرحلة التي تحكمه كانا واضحين للقلّة منذ سنوات، ولكن وقتها، كان الغالبية يسيرون ضمن الخط المهيمن السابق لرؤية العالَم. وما كان غيرَ مقبولٍ ويُعتبَر جنوناً منذ عقدٍ من الزمن، صار اليوم مسلَّماً به. وهذا ُّالتحول في النظرة جاء نتيجةَ تطوّر الظروف التي تعبّر عن الضرورة التاريخية لمرحلة تراجع الإمبريالية، وضرورة تجاوزها، بالمعنى التجريبي. فالحكم الذي كان منذ عقد من الزمن يتطلب خلفيةً نظرية مادية تاريخيّة قابضة على قوانين التطور التاريخي، هو اليوم محكومٌ بمادة تجريبية تاريخية ملموسة غنيّة وفاقعة وعنيدة تعوِّض نسبياً ذلك الموقعَ النظري. وهذا يسمح بالقول بأنّ ما يبدو مستحيلاً اليوم سيبدو ضرورياً غداً، ولكن حسب تسارع أكبر من السنين السابقة. فما هو هذا «المستحيل» الذي يتكلم عنه القلة اليوم والذي سيكون ضرورة مستَحقَّة غداً؟
بين «المستحيل» و«الممكن»
بينما كان يُعتَبَرُ ذلك مستحيلاً منذ سنوات، بات من المسلَّم اليوم أنّ عالَم الهيمنة الغربيّة انتهى، وهو ما يظهر على لسان الناطقين باسم هذا العالَم أنفسهم، وتحديداً في حلقته الأضعف اليوم، أيْ أوروبا وخطاب «قادتها السياسيين» والانقسام الحاصل بين مكوّناتها والذي يتصاعد يوماً بعد يوم. ولكنّ الجديد «المستحيل» بالنسبة للغالبية هو أنّ انتهاء عصر هيمنة الإمبريالية يحمل معه انتهاء عصر المجتمع الطبقيّ بشكل عام، أي تجاوزَ الانقسام الطبقي ككلٍّ وحلَّ تناقضات هذا الانقسام، وتجاوزَ ذروة هذا الانقسام المتمثلة بالإنتاج الرأسمالي البضاعي نفسه، تَشيِيْء الإنسان واغترابه، أي انقسام فرد-مجتمع، وإنسان-طبيعة. وكما حاولنا أن نظهر في المواد السابقة، هذا «المستحيل الجديد» بدأ يتمظهر سابقاً في العلوم والفلسفة كونها ميادين نشاط إنساني عالية التجريد وبالتالي تُوفِّر اختباراً تاريخياً مبكراً لما يتطور لاحقاً في ميادين نشاط أخرى، ونقصد ميدان الاقتصاد السياسي والمجتمع. فالحاجة لتجاوز الانقسام التاريخي ضمن المجتمع الطبقي تتّضح في ميادين العلوم والفلسفة منذ عقود. فهل يمكن اليوم، وانطلاقاً من الموقع ذاتِه النظريِّ والمنهجيِّ، تلمّس تمظهر هذه الحاجة -أي تجاوز الانقسام الطبقي- في الميادين «الملموسة»؟
الجواب بالتأكيد هو «نعم»، ويمكن هنا الاستعانة بميدان الخطاب السياسي. فالسياسة، التي هي بالنهاية تكثيف للاقتصاد، هي ميدان يحافظ على مستوى تجريدٍ عالٍ، ولكنّها على ارتباط وثيق بالمادة التاريخية الشاملة الملموسة ولها طابعٌ ممارَسيٌّ اجتماعيٌّ مباشر، لا يملك هامش مناورة كبيراً كما العلوم والفلسفة. وهذا ما يسمح للسياسة بأن تشكل ميدان اختبارٍ لفرضيات مبنية على حقل العلوم والفلسفة التي هي الميادين الأعلى تجريداً وتكثّفاً للمادة التاريخية.
في نماذج الخطاب السياسي المتناقضة
إذا أخذنا نماذج الخطاب السياسي المتصارعة على الساحة عالمياً، لا يجب الاستعانة فقط بواحد من الأقطاب السياسية المتصارعة عالمياً، بل يجب أن نأخذهما معاً. فالضرورة التاريخية لا تظهر إلّا من خلال الحركة الشاملة العالمية في صراع النقيضَين من خلال تمظهرهما في الحقول الاجتماعية المختلفة، كالسياسة والعلوم وغيرها.
وإذا أخذنا نقطة منهجية أساسية ألا وهي أن تجاوز الانقسام الطبقي في التاريخ يتخطى الانقسام العالمي الحالي بين الأقطاب المتصارعة، ليطال بنية المجتمعات كلها، وضمناً تلك الصاعدة منها، فيصبح واضحاً أنَّ تلمُّس «المستحيل الجديد»، أيْ تجاوز إحداثيات المجتمع الطبقي في التاريخ، يتطلّب تتبّعَ تفاعل الأقطاب المتصارعة للكشف عن التناقض الداخلي المحرِّك لصراع الأقطاب (عملياً هناك قطبان اليوم) بين قطب يحاول الحفاظ على هيمنة الإمبريالية، وقطب يحاول تجاوز تلك الهيمنة. فالتناقض الداخلي هذا هو قاعدة «المستحيل الجديد» الذي هو الممكن-الضروري، أيْ تجاوز الرأسمالية ومعها تجاوز المجتمع الطبقي ككل، الذي يتمظهر جزئياً من خلال الصراع حول تجاوز الإمبريالية ليتطور لاحقاً لكي يصير صراعاً لتجاوز الرأسمالية.
وإذا ما أخذنا تفاعل قطبَي الصراع عالمياً في إطار تجاوز الإمبريالية، نسمع اليوم في وسائل الإعلام الغربي وتحليلات بعض الأصوات الغربية عن «العجز الأيديولوجي» في سردية الغرب، على عكس قوة سردية الطرف الصاعد، أي الصين وروسيا بشكل خاص. وعن تهديد «داخلي»، نابع من عجز في إعادة إنتاج إحداثيات الهيمنة نفسها وتبريرها الذي يتمظهر أكثر ما يتمظهر في أزمة «الديمقراطية» (المقصود هنا نموذجها «الرأسمالي» في وجه «الشمولية») وما يهدّد انفكاك الحلف الغربي ككل، ويهدّد حتى النظام السياسي داخل الولايات المتحدة نفسها كـ«قلعة» الرأسمالية. وهذا التهديد الأيديولوجي مضافٌ على التهديد النابع من التفوق التقني والعسكري والاقتصادي والطاقيّ للقوى الصاعدة. والمواد حول هذه القضية عديدة، ولكن على سبيل المثال، فإن مراجعة مادَّتين في صحيفة «ذا هيل» (The Hill) في 21 و24 من الشهر الحالي (أيار، 2024) في صفحة «الأمن القومي» تشيران بوضوح إلى هذا الواقع المختلّ. [يمكن للقارئ الوصول إلى روابط التقريرين المذكورين في النسخة الإلكترونية من هذه المادة]. واحدٌ من التقارير يستعين بتقرير صادر عن دائرة الأمن الداخلي (Department of Homeland Security-DHS) الذي يقرّ بأن الخطر الرئيسي «القاتل» ينبع من تيار التفوق الأبيض العرقي المتطرف الذي بدأ بالتصاعد وسيستمر في تأثيره في السنوات القادمة حسب التقرير، والذي يتجاوز خطره «المجموعات الإرهابية الأجنبية»، في ظل دور مؤثّر لروسيا في صراع المعلومات والتضليل على مستوى الداخل الأمريكي حسب التقرير. وعلى الرغم من أنّ هذه المواد تعكس حجم التوتر داخل دول المركز الغربي والصراع بين تياراتها، إلّا أنّ ما يهمنا هو العناوين التي تحملها ومؤشراتها. وما هذه التقارير إلا أمثلة عن آلاف غيرها في الصحافة اليومية.
الديمقراطية والشمولية التفوق والمساواة
أنْ تجري اليوم، وعلى مستوى الصحف اليومية وليس في الكتب النظرية والمواد المرجعية الكلاسيكية الأكاديمية فقط – أنْ تجري عنونةُ الصراع في العالَم تحت شعارات أزمة الديمقراطية الغربية وتهديد تيار التفوق العرقي الأبيض، لَهِيَ تعبيراتٌ عن أزمة في النموذج السياسي الرأسمالي في مرحلة أزمة الإمبريالية، والعجز عن التوجه نحو نموذج فاشيٍّ صريحٍ ومحقَّق عالمياً نتيجةَ توازن القوى العالمي. فالعجز عن الحفاظ على عمل النظام الديمقراطي الغربي هو مؤشّر ليس على ضرورة طرح تعريف الديمقراطية من جديد فقط، بل وتعريف نقيضها أيضاً (حسب العقل الغربي الليبرالي)، أيْ «الشمولية». وصيرورة الغرب، في كونه يشكّل «النموذج التاريخي» لليبرالية الديمقراطية البورجوازية، في أنْ يظهر التعفّن في هذا النموذج من الحكم السياسي، يعني فيما يعنيه بأنّ نقاشاً حول «النظام السياسي عالمياً» صار مطروحاً على الطاولة ليس في الغرب فقط بل وعلى مستوى العالم. فإذا كان الطرف الصاعد متمثلاً في روسيا والصين يخوض نقاشاً داخلياً علنياً حيث للمستوى الاقتصادي والاجتماعي وزنٌ أكبر، أي الجانب الاقتصادي من ضرورة تجاوز الانقسام الطبقي، فإنّ الغربيّ يطرح داخلياً الجانب السياسي، إذا ما أخذنا أنَّ النهب الاقتصادي يحصل من الأطراف لمصلحة هذا الغرب، الذي له دور الهيمنة والقرار السياسي. فالاقتصاد السياسي وتقسيم العمل العالمي يرفع من وزن الطابع الاقتصادي-الاجتماعي للأطراف، بينما يرفع من وزن الأزمة السياسية في المركز الغربي، خصوصاً أن المحور الصاعد ما زال يحمل آليّات عمل سياسي «فوقية» نقيضة للّيبرالية الغربية، وبالتالي أقلّ أزمة على هذا المستوى.
خلاصة عامة
على الرغم من أنّ هذا البحث يحتاج لاستفاضة وتوسّع كبيرَين، إلّا أنّه يمكن القول إنّ المحور الصاعد نفسه يحتاج للخوض في نقاشٍ حول أزمة النموذج الغربي الليبرالي أعمق من النقاش الجاري اليوم بشأنه. وذلك في ظل الاقتصاد السياسي للعالَم، مأخوذاً بشموليته، أيْ بكلّ أطرافه المتصارعة. خصوصاً أنّ الطرف الصاعد متاحةٌ فيه مَصادرُ للعقلانيةِ أكثرُ ممّا لدى العقل المهيمِن في الغرب، مما يرشّح الأوّل إلى لعب دور هيمنيّ بديلٍ فكريّ وأيديولوجيّ إذا ما تعاظم تيار اللاعقلانية والتدمير بالغرب. وهذا يقتضي نقاشاً في الاقتصاد السياسي ككل، فالليبرالية السياسية، ومعها نمط حياتها الفرداني-الاستهلاكي، هي تعبير عن الاقتصاد والإنتاج الرأسمالي نفسه، أبعد من نقاش آليات الإمبريالية. فالصراع الفكري ما زال في بداية تطوره عالمياً، وما يحصل اليوم هو بوادره السياسية التجريبية المبكرة فقط.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1176