في التشامل والاندماج: هجوم واحد
في تتبّع لتطوّر مراحل الصراع على وقع أزمة هيمنة الإمبريالية، وتحديداً في المستوى الفكري والأيديولوجي والدعائي من الصراع، يظهر بوضوح الاتجاه العام لاندماج الظواهر والقضايا المرتبطة بها عالمياً، ومعه تظهر الحاجة لهجوم «واحد وشامل» من قبل العالَم الجديد.
في الاندماج مجدداً والوحدة
في مقاربة منهجية أشرنا سابقاً إلى أن ترابط وتقارب مستويات البنية الاجتماعية والواقع، على وقع تشابك التناقضات، تدفع إلى اندماج ظواهر الواقع، وتدفع بالتالي إلى اندماج حلّها عملياً. ومن المستويات التي صارت شديدة الترابط يمكن الكلام عن التكنولوجيّ ومستوى التطور الذي وصله، وبنية الطبقة العاملة ربطاً بتطور المستوى التكنولوجي، الجسدي وترابطه مع المعنوي-النفسي، ونمط الإنتاج وترابطه مع علاقات الإنتاج بشكل أكثر صراحة ومباشرة من كونها قضية نظرية، والطبيعي والحفاظ على النوع البشري ربطاً بالعناوين السابقة، وتعطيل الدفع باتجاه الحرب وضرورة توظيف القوى الحية والحفاظ عليها ضد البربرية، إلخ. تلك القضايا وغيرها في ترابطها الملموس تدفع إلى الواجهة المبدأَ النظري القائل بوحدة العالَم التي تقول بها الفلسفة المادية الديالكتيكية والتاريخية، ولكن هذه المرة تدفعها إلى مستوى التجريب والواقع العملي والملموس. فالرأسمالية في توحيدها الكوكب ضمن نظام عالميٍّ تَبلورَ بشكل كبير في المراحل الأخيرة ضمن عقود النيوليبرالية تفرضُ اليوم ظهور هذا التوحيد في كل لحظة. فمسرح العمليات العالمي إذا ما تتبعنا الأخبار اليومية فقط المرتبطة بما يدور عالمياً يمدّنا بصورة واضحة عن هذه الوحدة، فلم يعد يوجد بيان أو تقرير أو خبر أو تصريح حول «الحدث العالمي»، والكلام عنه بالعام، إلا ويتناول كل القضايا الجوهرية في مكان واحد.
مؤشرات أخرى على الوحدة
جزء من المؤشرات المهمة على الوحدة المشار إليها، يمكن استقاؤها من لسان وعقل والممارسة الأيديولوجية لقوى العالم الذي يحاول الحفاظ على هيمنته. وفي تتبع لبعض «الأعلام» الأيديولوجية لهذا العالَم الذي يموت يمكن الاستنتاج أنّ دورهم لم يعد محصوراً بالتنظير العام حول النظرة إلى العالم وتمويه التحول المطلوب القيام به، بل صار متداخلاً مع السياسي والحدثي. ويمكن هنا الإشارة إلى أحد عتاة العقل المهيمن، وهو الصهيوني يوفال هراري الذي كثيراً ما أأشرنا إليه في مواد سابقة. ففي مقابلة له مؤخراً يحاول من موقعه «الفلسفي» أن يتناول الصراع والحرب في فلسطين والمنطقة. وهراري هذا بدأ ظهوره في المشهد العالمي بالترافق مع تعاظم الأزمة الأيديولوجية للإمبريالية وتهشّم سرديتها ونظرتها إلى العالم التي تحاول عبرها تبرير نظامها الفرداني الاستهلاكي الذي ساد خلال العقود الأخيرة. وهو يلعب دور «الناقد» للظواهر المرتبطة بأزمة نمط الحياة المهيمن، ويحاول أن يمّوه ويشوّه الخلاصات حولها ومعانيها. وترتكز محاولته تلك على إغلاق أي إمكانية لعالَم بديل، بل مجرد ما يقدمه هو تبرير فلسفي لعالم ما بعد المجتمع مع ما يعنيه ذلك من نهاية للإنسان والمجتمع على حدّ سواء. وفي مقابلته الأخيرة حول الحدث والصراع الفلسطيني يقول هراري بـ «لا ماديّة» أسباب الصراع (الأرض، الطعام،...)، بل ما يحصل بالنسبة له هو صراع «بلا معنى ولا موضوعي» لمجموعات من البشر «تتقاتل على قصصٍ متخيَّلة في رؤوسهم»، فهنا «أرض كافية ولا وجود لنقص في الأرض والغذاء» لتقاسمها ما بين «أهل تلك المنطقة» (وهو هنا يبرر انتماء الصهاينة لتلك المنطقة بشكل خبيث من خلال اعتبارها بديهية)، وهو يلغي أيضاً «أهمية تلك المنطقة» فلا «وجود للذهب والنفط»، و«الناس هناك يتقاتلون على مفاهيم مقدَّسة في رؤوسهم»، من خلال اعتبار الحجر حجراً مقدساً مثلاً، مع أأأنه أنه حجر عادي.
ما يهمنا هنا هو في توظيف «مَعلَمٍ» أيديولوجي أساسي لدى الإمبريالية، أي هراري، في الصراع السياسي المباشر، من موقعه «الفوقي والمحايد» والذي كان يُظهِر نفسه سابقاً وكأنه فوق «الصّراع» أو خارجه. وهذا دليل على أن حاجة الصراع الأيديولوجي عالمياً تتطلب دخول كل «القوات» واندماجها في هجوم واحد يتداخل فيه الفلسفي (وهو الموقع والدور الذي يلعبه هراري كـ«فيلسوف») مع السياسي مع باقي المستويات.
ولهراري هذا (الأستاذ في الجامعة العبرية في القدس) موقع «مركزي» في الصرع الأيديولوجي، ليس فقط من خلال الأرقام التي تظهر متابعةً لمقابلاته و«الإعجابات» التي ينالها، بل أيضاً من خلال صورته كفيلسوف وعالم، ليس في الغرب فقط بل في العالم العربي. وترجمات كتبه إلى العربية و«قبولها» كأنها مادة «غير قابلة للنقد»، وهو مؤشر على تأثيره الواسع.
خلاصات أخرى من المقابلة
لا داعي هنا للغوص في سخافة وضحالة تحليل هراري ونكرانه للتاريخ والجيوسياسة في قضية فلسطين بشكل عام، بل ما يهمّنا هو ما يقدمه من تمويه جديد للقضية، من خلال التحوّل في كيفية تقديم القضية نفسها على أنها قضية لا دينيّة ولا علاقة للقداسة فيها، وهو هنا يتجاوز الدعاية الصهيونية السابقة في تبرير وجود الكيان «الإسرائيلي» المرتبطة بقضية الأرض الموعودة وما يرتبط بها من قضايا الهيكل المفقود وغيرها. ويبدو أنّ نكران «قداسة المنطقة» هي لعبة أيديولوجية جديدة وتجاوزٌ للسردية الصهيونية السابقة ومحاولةُ تحضير لترتيبٍ ما، بعد الحرب الراهنة ربما. وما يحاول هراري فعله من خلال إظهار «السخافة الدينية» للصراع والظهور بمظهر «العلماني»، هو خلق تبرير جديد لوجود الكيان الصهيوني، يخاطب فيه قطاعات «غير متطرفة» من العالَم. هذا التبرير الجديد هو «عقلنة» لوجود المحتل وتثبيته من خلال سردية «علمية» يمكن عبرها اقتسام الأرض «التي تكفي الجميع» وهو على ما يبدو اجتذابٌ لمتابعيه الكثر في الغرب والعالَم إلى نقاش مُختَلَق يغطّي ويشوّش على تصاعد الحالة الرافضة للحرب ونوعٌ من «التطبيع الفلسفي» للكيان وعنوانه: لماذا تتقاتلون بينما يمكنكم العيش «بسلام»؟
الهجوم المقابل
الاندماج والترابط الشديد في الهجوم الذي تقوم به الإمبريالية على كل الجبهات لا يتطلّب «وحدة الساحات» فقط، ولا وحدة مستويات الصراع الاقتصادية والسياسية فقط، بل ويتطلّب الهجوم على المستوى الفكري والأيديولوجي عالمياً أيضاً، في هجوم واحدٍ يرتقي إلى مستوى النظرة الفلسفية وترتيب جديد للعالم ونمط الحياة، الذي يبدو أنه يفرض نفسه أكثر فأكثر على جدول الأعمال النقيض.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1183