حول تيّاري الوحدة والتفكّك: العلوم نموذجاً

حول تيّاري الوحدة والتفكّك: العلوم نموذجاً

إن اتجاهاً عاماً نحو توحّد الظواهر في الواقع كما في انعكاسها الواعي هو تعبير عن قانون وضرورة تاريخية عمليّة في المرحلة الراهنة. والاتجاه نحو الوحدة يتّضح بشكل جلي في تعاظم تيار الدفع نحو التفكيك. وفي هذه المادة نعالج هذا التناقض بين التيارين في ميدان العلوم.

قانون الاندماج والفلسفة

إن قانون اندماج مستويات الواقع يفرض نفسه على مختلف أنظمة النشاط البشري، العملي منه والفكري. والاندماج مرتبط بكون حلّ واحد من التناقضات يفترض حل التناقضات الباقية، على قاعدة الترابط الشديد بين مستويات الواقع الذي حصل في العقود الماضية مترافقاً مع وصول التناقضات إلى حدّها التاريخي. وعملاً بتناسب الواقع مع انعكاسه في الوعي، فإن العقل في السياسة والعلوم وغيرها من الأنشطة البشرية، مهما اختلف مستوى تجريدها، يعكس هذا الاتجاه العام باتجاه الوحدة، ضدّ التفكيك. والتناقض بين الوحدة والتفكيك هو تعبير عن موقفين متناقضين تجاه العالم. وكما حاولنا أن نبيّن في المواد السابقة المعنونة (رد اعتبار الفلسفة وسؤال التحوّل الحضاري مجدداً، الأجزاء ١و٢و٣) بشكل خاص، إن الواقع التاريخي والبنية الاجتماعية، نتيجة حدة الانقسام حول الاتجاه المستقبلي لتنظيم العالم، يكشفان اليوم عن صراع تَمظهر في تاريخ الفلسفة بين موقفين نقيضين، الأول هو المادية التاريخية (الماركسية) كأرقى مذهب مادي في النظر إلى العالم والوجود، والثاني هو المثالية المتطرفة في نموذجيها الذاتية المتطرفة والمادية المتطرفة، حيث الأولى تلغي الواقع، والثانية تلغي العقل، وكلاهما، أي الذاتية والمادية المتطرفة هما تعبير عن اللاعقلانية والعدمية في الفلسفة. وبالتالي، نتيجة دفع القوى المهيمنة وقانون المجتمع المنقسم نفسه باتجاه الموقف المثالي المتطرف، فإن الموقف الأول، أي الموقف المادي التاريخي، لا بد وأن يفرض نفسه نتيجة الضرورة الواقعية التي يستدعيها الاتجاه المتطرف العدمي والإلغائي. هي ضرورة دفاع الحياة عن نفسها ومصالح الظواهر في بقاءها، في وجه مصالح الأقلية في حفاظها عن الواقع المنقسم، وضمناً تقسيم العمل.

المادية التاريخية ومقولاتها ضد المثالية المتطرفة

في الكتب المدرسية التي حاولت شرح الماركسية بشكل مبسّط قرأنا عن المقولات العامة ومنها مقولة مركزية هي: وحدة العالم (إلى جانب تغيّره وحركته). وبالتالي، كما أن فعل المجتمع المنقسم يدفع باتجاه التفكك، والذي يجد مكافئه الفلسفي اللاعقلاني في المذهب المثالي الذاتي الذي يقول بإلغاء الواقع، وإلغاء العقل، فإن ضرورة ومصلحة الحفاظ على المجتمع يدفعان تجاه وحدة العالم، وضمناً وحدة العقل مع الواقع، والذي يجد مكافئه الفلسفي في المادية التاريخية. وكما أشرنا سابقاً بأن الواقع، وهنا المجتمع المنقسم طبقياً في صيغته الرأسمالية، يكشف عن جوهره، فإن الواقع التاريخي صار تجلياً على مستوى العين المجردة (غير النظرية) للمقولات الفلسفية المتصارعة في تاريخ الفلسفة. ووحدة العالم تجد تجليها في السياسة، في مقولات المصير المشترك التي يجري الكلام عنها في مشاريع وطروحات وممارسة الدول الصاعدة، وتحديداً روسيا والصين. وهي أيضاً تجد تجليها في باقي مستويات النشاط كالعلوم.

العلوم بين التفكيك والوحدة

يقول الباحثون في أزمة العلوم وتاريخها، بأن العلوم تعاني من انقسام وتفكك ليس فقط بين مواضيع العلوم وميادين العلوم، كالانقسام بين العلوم الطبيعية والإنسانية (كتعبير عن الانقسام بين الإنسان والطبيعة)، والانقسام بين الطب العقلي والطب الجسدي الفيزيولوجي (كتعبير عن الانقسام بين العقل والجسد)، مما أنتج انقسام الفيزياء عن الكيمياء والبيولوجيا وعلم الاجتماع والاقتصاد، بل حتى ضمن العلم الواحد نفسه، فعلم النفس مثلاً، وهو أوضح مثال عن التفكك والانتقائية نتيجة حدة الموضوع الذي يعالجه، كونه كعلم يظهر أكثر ما يظهر النظرة الفلسفية إلى العالم على عكس العلوم الطبيعية التي يمكن فيها تمويه تلك النظرة، هذا العلم وصل فيه مستوى التفكك إلى نفي وحدة الإنسان، في تعامله مع وحدات منفصلة، كالذاكرة والعاطفة والنشاط الجسدي... فالعلوم تعاني من أزمة منهجية عنونها الباحثون بأزمة الانتقائية والتفكك. وإذا عدنا إلى مقولة وحدة العالم، نجدها حاضرة في مجال العلوم في نقاش إنجلس المبكر للعلوم في كتابه (ديالكتيك الطبيعة). في كتابه يظهر إنجلس كيف أن تطور الواقع نفسه وتطور ظواهره فرضا أشكالاً مختلفة من المادة، فالوجود الفيزيائي يتطور نحو الكيميائي، كما أن الكيميائي يتطور نحو البيولوجي، إلخ. هذا الترابط الداخلي للظواهر وتطورها من مستوى إلى آخر هو نفسه قاعدة ترابط العلوم.
ولهذا نرى مثلاً، على النقيض من اتجاه التفكك في العلوم، هناك اتجاه آخر يفرض نفسه على مجتمع البحث العلمي، هو الاتجاه العابر للتخصصات (Interdisciplinary)، الذي بدأ يتطور بشكل واضح في السنوات السابقة، وصار ما يمكن اعتباره (موضة) في المعاهد والجامعات عالمياً، وبشكل خاص في المجموعات البحثية التي تعنى بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وعلوم الأعصاب وعلم النفس والطب وعلم الاجتماع. وهذا تأكيد على ما ذهبنا إليه بأن الذكاء الاصطناعي هو عامل توليف حضاري، وهذا تعبير عنه في مجال الأكاديميا والعلوم.

من التجريبي إلى النظري

على الرغم من أن هذا التوجه نحو البحث العابر للتخصصات يجري بشكل عام على نحو تجريبي، أي أنه يفرض نفسه من خلال التجربة وضرورتها، ولم يتبلور بعد في مستواه النظري نتيجة أزمة التفكك المنهجية والمعرفية في العلوم، ونتيجة التنافس بين الباحثين والنظرة المركزية لكل علم تجاه العلوم الأخرى (فالكيميائي أو البيوكيميائي يفترض أولوية بحثه على باقي ميادين العلوم)، إلا أن تراكم المعطيات المادية والواقعية التي تفترض وحدة مستويات الواقع تفرض نفسها على العقل العلمي وهو ما يظهر في تطور هذا الاتجاه الذي ما زال يعتبر كحالة مضافة على ميدان العلم، لا حالة أصيلة فيه، بينما تبقى الحالة الأصيلة هي في التسيّد النسبي للبحوث المستقلة. والانتقال تجاه وحدة العلوم نظرياً يفترض انتقالة خارج ميدان العلم، هي انتقالة سياسية وفلسفية في العقل المهيمن. وهنا نتأكد مجدداً من مقولة ليف فيغوتسكي فيما خص علم النفس مثلاً، بأنه لا يمكن للعلم أن يتملك موضوعه منهجياً ومعرفياً دون أن يتملك المجتمع نفسه ويسيطر على تاريخه. ولكن كون المرحلة هي مرحلة تسارع مدفوعة بالترابط ووحدة التناقضات، فإن الانتقال يحصل في مختلف الميادين بشكل متوازٍ بغض النظر عن أين توجد نقطة الحسم في الانتقال. فالميادين كافة، وهنا العلوم، تلقي بوزنها في عملية الانتقال.
إن البحث في مسألة وحدة العلوم معقد ولا يمكن اختزاله، ولا يمكن التجاوز المبسط أيضاً لتقسيم ميادين العلم نحو صيغة العِلم الواحد والعالِم الشامل، فلا بد للتخصص أن يبقى قائماً، ولكن ما يجري الكلام عنه هو وحدة العمل المشترك بين العلماء من أجل توحيد عملية البحث على قاعدة وحدة موضوع البحث نفسها. وهذا يفترض إعادة هندسة لمناهج التعليم والمواد العلمية ولعملية البحث وتنظيم المؤسسة العلمية والبحثية بشكل عام.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1175
آخر تعديل على الإثنين, 20 أيار 2024 13:30