الانتهازية «الثورية» في المرحلة الانتقالية وتصفية الحساب

الانتهازية «الثورية» في المرحلة الانتقالية وتصفية الحساب

نتيجة ضغط الوقائع وقوة الضرورة التاريخية لم يعد للوعي من مختلف خلفياته النظرية أن ينكر طبيعة التحول الحاصل عالمياً. ولهذه الخلاصة أهمية في جانبها الإيجابي، إلّا أنّ جانبها السلبي حاضرٌ أيضاً وهو ما لا يجب للجانب الإيجابي أن يغطّيه فنطرب إليه حصراً. وهنا بعض الأفكار تحديداً من لينين ومرحلة الصعود الثوري في القرن الماضي.

الانتهازية تحت ضغط الواقع

في نقاش الصراع الأيديولوجي يكرّر لينين فكرة عند إنجلس هي أنه كلما اشتد وضوح الضرورة التاريخية وازدادت قوة فكرة على حساب الأفكار الأخرى فإنّ القوى المختلفة التي كانت معادية للفكرة التي تزداد قوتها تقوم بمناورة لقبولها، ولكن مع إخصائها وتعطيل قوتها، فتعيد إنتاجها دون «روحها الثورية». وفي إشارته إلى القوى الانتهازية الليبرالية البرجوازية في جوهرها والثورية في مظهرها، دائماً ما يذكر لينين الأصل الاقتصادي الاجتماعي التاريخي لهذا الخط البورجوازي في الحركة الثورية الاشتراكية، ألا وهو «سنوات التطوّر السّلمي» التي سمحت بانتعاش هذه القوى. وهذا التلوّن الانتهازي للقوى مثلاً بعد انتصار البلاشفة في روسيا على حساب المناشفة شكّل طبيعة الصراع الداخلي بشكل خاص ضمن الحزب البلشفي، الذي صار يضم قسماً من المناشفة «التائبين» أو الذين قبلوا بأفكار البلاشفة النظرية والسياسية حول الإمبريالية والدولة والطبقات ودور الطبقة العاملة والحزب، وغيرها. ويذكّر لينين في عدة مناسبات بأصل هذا «الثوري» أو ذاك ليفسِّر انحرافه الحالي، فيقول مثلاً بما معناه «هذا كان منشفياً، فليس غريباً عنه أن يتخذ موقفه الانحرافي هذا».

ما يعنينا اليوم

إذا ما قمنا بإسقاطٍ منهجيّ دون اختزال الفروقات التاريخية بين عناوين الصراع وقضاياه، يمكن القول إنّ المرحلة الراهنة هي تطور في صعود الخط «الثوري» تاريخيّاً، بما هو تجاوز للإمبريالية والرأسمالية عالمياً، كاستكمال للموجات الثورية في القرن الماضي مع الفروقات في طبيعة القوى التي تخوض تلك العملية، وهذا يعني تشابهاً في معالم الصراع الفكري بين مراحل الصعود الثوري في القرن الماضي واليوم. وإذا كان لينين قد حدّد الأصل التاريخي الاقتصادي الاجتماعي للانتهازية «الثورية» الذي هو «سنوات التطور السّلمي»، فإنّ العقود التي سبقت الأزمة الرأسمالية في العقدين الأخيرين مثّلت مرحلةً من التطوّر السّلمي نسبياً في إطار النمط الليبرالي عالمياً. هذه المرحلة الليبرالية والتي تمتاز بعمق «ليبراليتها» عن تلك التي قصدها لينين، كفيلة بأن تنتج انحرافاً في الحركة الشيوعية والاشتراكية العالمية أعمقَ بكثير من كل الانحرافات التاريخية. وهذا ما رأيناه في تموضع أغلب قوى «اليسار والشيوعية والاشتراكية» إما في الموقع الأمريكي أو الثورات المضادة أو مواجهة «الإمبرياليتين الروسية والصينية»، بحسب وصفهم، أو الغرق في السردية الفوضوية لـ«تمجيد الشعوب» دون تنظيمها وقيادتها والتنظير لحركتها، أو الغرق في الثنائيات الليبرالية المدمرة، أو العداء المطلق للدولة لمصلحة «الثورة»، أو العداء للدين لمصلحة العلمانية، أو العداء المطلق للإسلام السياسي المقاوِم منه (في العالَم العربي بشكل خاص)، وغير ذلك من مؤشرات عديدة تشير إلى التشوه الفكري الانحرافي لهذه القوى. وفجأة حصل تحوّل ما، ليس لدى هذه القوى «الثورية» فقط، بل لدى القوى اليمينية أو القومية أو الوطنية الشوفينية أو... أو... وهذا التحوّل بارز في الميل العام للتقارب مع التحول الحاصل عالمياً، وتحديداً في التقارب مع روسيا والصين، بعد أن كانت تلك القوى «اليسارية والشيوعية» تقول مثلاً بـ«إمبريالية» هذا التحول، ولا اشتراكيّته. فهل غيّرت تلك القوى فعلاً من مرجعيّتها الفكرية وتخلّصت من جوهرها الانحرافي؟!

خطر الانتهازية في المراحل القادمة

إن حجم القوى الانتهازية في الحركة السياسية «الثورية» كبير، والتحول في موقف بعضها من قضية هنا أو قضية هناك على وقع ظواهر مثل «التقارب الشديد الروسي الصيني الذي يصل حد الوحدة» أو «دعم روسيا والصين للقضية الفلسطينية»، أو «التلاقي الإيراني الصيني الروسي، إلى جانب التلاقي الإيراني العربي، والتلاقي الإيراني مع القضية الفلسطينية»، إلخ... هذا التحول في المواقف ليس إلّا تحوّلاً انتهازياً، من موقع فكرها الذي كانت تتموضع فيه قبل أشهر أو سنوات قليلة. هذا ليس تحولاً في روح فكرها من انحرافيٍّ تحت طابع الجمود والعدمية إلى روحٍ ثورية، وبشكل خاص ديالكتيكية تاريخية. فجوهر الانتقال يصير بالنسبة لها محصوراً بتثبيت الانتقال لا بنتيجته في تجاوز الرأسمالية، والتوجه العام لتفتيت كل انتظام يغيب عن ذهن هذه القوى ممّا يجعل من موقعها المعادي للدولة (والتراث والأسرة والتقاليد...) وغيرها، سيحضر عند كل قضية حاسمة، وتعريفها لجوهر تجاوز الرأسمالية كإنتاج بضاعيّ يغيب أيضاً، مما سيضعها ربما إلى جانب القوى الرجعية عالمياً حتى داخل القوى الصاعدة، وهذا هو لبُّ جوهرها الانتهازي. هي مع التيار الصاعد لأنّه صاعد، أمّا في موقفها الضمني، فهي ما زالت في موقعها الفكري والنظري الجامد والعدميّ، ولهذا فهي تتعامل بالقطعة مع ما يحصل، ولن يكتب لها الفعل التاريخي من موقع المساهم في تطوير الحركة.

تصفية الحساب مع الانتهازية

ما ورد أعلاه لا يعني العداء مع كلِّ مَن غيَّر في موقفه بالمعنى العميق، بل المقصود هو تلك القوى البهلوانية التي يجب خلال تطوّر العملية السياسية أنْ يجري دائماً كشف جوهر موقفها، وذلك لا يمكن إلّا من خلال وضع القضايا الجوهرية والمستقبلية على بساط البحث، لا أن يكون المعيار موقفها الآني من الحدث أو من عدة أحداث هي اليوم موضع «إجماع». فالقوى الانتهازية تحاول دائماً أن تختطف المشهد فتخنق الجوهر الثوري للعملية الحاصلة، وهي ستكون ضارّة وقاتلة كما كانت خلال السنوات السابقة، التي جعلتها في بعض الأحيان تعمل لصالح مشروع التفتيت والإحراق الإمبريالي نفسه. ترسيم الحدود مع تلك القوى علناً ضروريّ، دون أن تغيب عن الذهن ضرورةُ تصفية الحساب مع منطلقات فكرها العدميّ والجامد، لا أنْ نطرب إلى تغيير موقفِها وكأنّه انتقالٌ لمواقعها الفكرية، فهذا التغيير في الغالب هو انتهازيٌّ في وظيفته، حسب القول الشعبي «بيوقفو مع الواقف».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1185