يسار صالح
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
في الحادي عشر من أيلول، هدر الرعب في السماء، تساقطت الجثث محترقة على الأرض، وارتفع الدخان القاتم فوق الجدران المهدمة، لم يحتج الأمر أكثر من بضع دقائق حتى تفتح أبواب جهنم على الأرواح البريئة المحشورة في ذلك المكان، لقد كان الإعلان واضحاً للغاية، هي بداية عصر جديد من الرعب والترقب حفر جراحه في نفوس الجميع، حقيقة اتضحت معالمها فور أن انقشعت سحب الغبار وخرج من بقي حياً من تحت الركام، لن تعود الأمور إلى سابق عهدها بعد هذا التاريخ، إنه الحادي عشر من أيلول من العام ألف وتسعمائة وخمسة وسبعين.
ارتدى الصبي حذاءه على عجل، ركض بحبور ووقف أمام والده ضاحكاً صاخباً، ابتسم الأب في وجه ولده المترقب، إنه الموعد المنتظر، لم يبق سوى أقل من اسبوع لينضم الصغير إلى إخوته، حماسة الصبي لا تصدق، سيدخل المدرسة أخيراً، أخذ يشد بنطال والده وهو يسرد ما يحتاج إليه قبل نهاية الأسبوع القادم، يقفز حوله وهو يقص عليه ما أخبره ابن الجيران عن مدرسة الحارة، لم ينصت الأب إلى كلمات صبيه المتدافعة، بقيت ابتسامته معلقة على وجهه لكن عقله كان في مكان آخر.
«حياً.. ميتاً.. حراً.. مسجوناً.. لا يهم.. أنا لست مهماً.. المهم هو بلدي.. المهم هو «الكونغو».. الشعب الذي تحول استقلاله إلى قفص كبير.. القفص الذي يحتجز الجميع في الداخل بينما ينظر المستعمر إلينا من الخارج..»
تتصدر أخبار بلدة «فيرغسون» عناوين نشرة الأخبار على قناة «MSNBC» الأمريكية. تحولت أحداثها إلى حديث الساعة الآن بعد أن تجاهلها الجميع لبعض الوقت، بعد النشرة بدأت ساعة جديدة من التحليل مع المذيع الشهير «إد شالتز»، واستضافة ضيوف.. للمصادفة.. جميعهم من أصحاب البشرة السوداء، يبدو أن الأمر يحتاج لصك براءة من عقدة «الأبيض المستبد»، تحدث الجميع بـ«لباقة»، وتمنوا أن «تنتهي هذه الاضطرابات على خير»! ..
دق الجرس، وانتهى نهار جديد من العمل، كان يوماً صيفياً حاراً تعيشه بلدة «فيرغسون» المنسية في ولاية «ميسوري» الأمريكية، وهاهم العمال يخرجون من ورشاتهم متثاقلين يجرون أقدامهم إلى بيوتهم كالعادة، لا أحداث مثيرة في هذه البلدة الصغيرة التي يحكمها انتظام شديد في إيقاع حياتها اليومية، تبدأ الأمهات بإعداد وجبة الغداء المتأخر للعائلة في الوقت الذي يعود فيه الشاب «مايكل براون» إلى منزله بعد أن أمضى نهاره في منزل جدته المريضة.
أقفل الجميع منازلهم، تجمعت العائلات في الغرف، وتحلق الجميع أمام شاشة التلفاز، توقف البث الاعتيادي حتى يتسنى للجميع الاستماع إلى هذه الرسالة الطارئة، ظهر أحد مراسلي الأخبار ليقرأ على عجل هذه الرسالة: «إليكم هذه الرسالة العاجلة.. نحب أن نذكر السادة المشاهدين بأن عملية التطهير السنوية قد بدأت.. وستعلن صفارات الإنذار التي تسمعونها الآن عن السماح بارتكاب جميع الجرائم التي تودون ارتكابها دون أي مسؤولية قانونية، ومنها القتل بالطبع، ستتوقف خدمات الطوارئ والإسعاف عن العمل خلال الاثنتي عشر ساعة القادمة، لذا نتمنى لكم عملية تطهير سعيدة مع تحيات شكر الحكومة الأمريكية الجزيل لمشاركتهم هذه السنة..!»
دخل «الزعيم» منزله الدمشقي الجميل. مرّ بسرعة أمام البحرة. هرولت بناته لتقبيل يديه، حانياتٍ صاغرات، لم يثنه ذلك عن «الزعيق»؛ يبدو أن إحدى بناته قد ارتكبت خطأ قاتلاً، لا يغتفر. لوح الرجل بعصاه الغليظة في وجهها. بالرغم من محاولات الأم العاجزة لرد غضب الأب عن ابنته البكر، إلا أنّه بقي مصراً على تربية تلك «القاصر». هدر صوته من بين شاربيه، واستمرت تلك المهزلة ليالي ثلاثاً
ظن الجميع بأنها مزحة، لكنها ليست كذلك، ها قد ثُبتت الكاميرات ، وأخذ الصحفيون أماكنهم بانتظار بدء هذا المؤتمر الصحفي، الأخبار دسمة وسيكون هناك مئات الأسئلة، فقد استطاع المليونير «تيم دريبر» جمع الاهتمام الأمريكي والعاملين حوله، فهو على الدوام صاحب «أفكار جريئة» كما تعرف عنه الصحافة المحلية! لكن اجتماع اليوم يمهد لفكرة لم يسمع بها الشعب الأمريكي منذ زمن بعيد، وستعلن بداية عهد جديد من «الإمبراطورية الأمريكية» تصل فيه الفوارق الاجتماعية إلى حد لم تعرفه البشرية من قبل، يبدو الرجل جدياً في اقتراحه، يريد ابن كاليفورنيا البار «تقسيم» ولايته الشهيرة إلى ست ولايات جديدة، على أساس واحد فقط، ولايات للأغنياء وولايات للفقراء، وها هو يشير إلى خريطة كرتونية وضعت بجانبه مبتسماً وسط ذهول الصحافة وعدسات الكاميرات!
دوت صفارات الإنذار في كل مكان، هرعت الجموع الخائفة إلى أقرب ملجأ، توقفت السيارات على الطرقات وخرج الناس منها معولين دون تكبد عناء إقفالها و«انبطحوا» على جانب الطريق، أصبح الأمر اعتيادياً بالنسبة للجميع، إلا لـ«شنيتزل»، القطة الأليفة من إحدى ضواحي تل أبيب، فهي آثرت البقاء في بيتها الخشبي على شجرة الحديقة، وعلى الرغم من أن بيتها ذاك قد قسمته شظية من شظايا الصواريخ الفلسطينية، إلا أنها بقيت على قيد الحياة، لقد ساهمت «القبة الحديدية» للجيش الإسرائيلي بتحطيم الصاروخ الأصلي إلى شظايا، ولم تفقد «شنيتزل» أيا من أرواحها التسع، وستهرع إلى منزل أصحابها لتهدئ روعها بصحن دافئ من الحليب!
صعد على المنبر، ونظر إلى وجوه العشرات من الناقمين والغاضبين، كان يعلم بأن كلماته لن تلقى أذناً صاغية بين الحضور، لكنه يعلم أيضاً بأنه سيسجل موقفاً يذكره التاريخ إلى الآن رغم محاولات طمسه كل سنة، فالحشد الواقف أمامه يكره كل شيء فيه، من وقفته ومشيته وصولاً للون بشرته السوداء، أمسك بلحيته البيضاء الخشنة وبدأ هذا الرجل الأسود المسن بالحديث: «أيها الإخوة.. نجتمع اليوم في الرابع من تموز من العام 1852 لنحتفل بتوقيع «إعلان الاستقلال»، كما أسميتموه، الإعلان الذي سيضمن حقوق الناس على هذه الأرض الجديدة، لكني لا أرى فيه سوى غطاء قماشي سنغطي به الجرائم البشعة للسنين الكثيرة القادمة، فهذا الإعلان، يشرع وبصراحة استعباد السود من الناس، وإبادة السكان الأصليين حتى آخر رجل وامرأة، في سياق الجهد لخلق أمريكا الرأسمالية الجديدة..»!