الحقيبة الحمراء..
ارتدى الصبي حذاءه على عجل، ركض بحبور ووقف أمام والده ضاحكاً صاخباً، ابتسم الأب في وجه ولده المترقب، إنه الموعد المنتظر، لم يبق سوى أقل من اسبوع لينضم الصغير إلى إخوته، حماسة الصبي لا تصدق، سيدخل المدرسة أخيراً، أخذ يشد بنطال والده وهو يسرد ما يحتاج إليه قبل نهاية الأسبوع القادم، يقفز حوله وهو يقص عليه ما أخبره ابن الجيران عن مدرسة الحارة، لم ينصت الأب إلى كلمات صبيه المتدافعة، بقيت ابتسامته معلقة على وجهه لكن عقله كان في مكان آخر.
نفض الأب يديه بسرعة من جيبه، وأزاح الصغير ورفعه على كرسي قريب، اقترب من زوجته بوجه شاحب، تنهدت الأم ومضت إلى الغرفة الأخرى، وتناولت صرة ملونة من القماش السميك، إنها المرة الثانية هذا الشهر، رمقت زوجها ولم تنبس بكلمة، نظر الزوجان إلى بضعة آلاف تقبع داخل القماش، اقتسم الرجل نصفها ثم أضافها إلى ورقة يتيمة أخرى تقبع في جيبه ثم نهض خارجاً، لملمت المرأة صرتها بحرص وأعادتها إلى مكانها، «دفعنا لبائع المياه ما ترتب علينا منذ أسبوع.. وها هي المدرسة تأخذ معظم ما تبقى من مال..» فكرت الأم ملياً ثم نزعت خاتم الزواج من يديها ورمته داخل الصرة، همست لنفسها بحرقة: «هذه المرة.. سأقنعه بأن يبيعه..».
أمسك الأب بيد صغيره وهو يعبر الشوارع العريضة، يندفع الصبي أمام الواجهات الملونة ثم ينظر إلى أبيه مشيراً بأصبعه إلى تلك الحقيبة الملونة أو ذلك الدفتر اللامع، ترتفع أصوات الصغار لتزيد من صخب الشوارع المزدحمة، لكن، لا ازدحام في الداخل، نظرة واحدة تكفي أن يزيح المرء وجهه ويمضي، «تحطيم» للأسعار هنا، الكثير من «التشطيبات» الحمراء على الأسعار القديمة، لكن السعر «الجديد» ما زال بعيداً عن أحلام المارة، ينسل أحد أصحاب المحلات وراء الواجهة ليضع حقيبة مدرسية بنفسجية جميلة، يتقافز الأطفال وهم يتوسلون أهاليهم، لكن الكبار ثبتوا نظرهم للحظات على رقعة السعر ثم سحبوا صغارهم ومضوا وسط البكاء والزعيق.
«رباط مطاطي.. هذا كان كل ما نحتاجه في بداية كل عام»، يسترجع الأب ذكريات طفولته في قريته البعيدة في الجبال، لم يعرف يومها معنى «اللباس المدرسي الموحد»، كانت رقع الثياب الممزقة توحد بين جميع الصغار، يذكر كيف صنع له والده رباطاً مطاطياً متيناً من إحدى إطارات الجرار المثقوبة، ربط كتبه وأوراقه بها ثم رفعها على ظهره، كم كان سعيداً عندما تقفز حزمة الكتب فوق كتفه وهو يعبر النهر القريب في طريقه إلى المدرسة، سرعان ما انتفض الأب من عالم الذكريات بعد أن جذبه ولده من بنطاله إلى واجهة قريبة، توسطت الأنظار صدرية زرقاء صغيرة، أزرارها سوداء لامعة، أشار الصبي إليها بحماس، أعاد الأب إحصاء الأوراق النقدية في جيبه يائساً، لا جدوى، ستقضي هذه الواجهات البراقة على أحلام الصغير، انحنى الأب نحو ابنه وهمس: «أعرف مكاناً فيه أحلى صدرية!.. هيا بنا!».
حمل الأب صغيره المتعب على كتفه، انعطف على الفور بعيداً عن زحمة الشوارع الواسعة، بدأت الشمس تغيب وزحمة الطرقات تتلاشى، أخذت الشوارع تزداد ضيقاً وظلمة، لمح الأب امرأة تفترش الأرض تحت عمود الإنارة، وتمد أمامها كومة من الثياب المستعملة، اقترب الرجل منها وهو يتفحص ما تبيع، عندها رمقت العجوز الصبي النائم على كتف والده، نهضت بسرعة واقتربت من الرجل، نفضت كومة الثياب الكبيرة أمامها بحركة سريعة وأخرجت من تحتها حقيبة جلدية حمراء، مسحت بكمها الغبار الأسود عنها وعلقتها بيد الصبي، عندها فتح الصغير عينيه وأمسك بالحقيبة وضمها إلى صدره ثم تابع غفوته على كتف أبيه. قبلت المرأة أطراف أصابعها المضمومة وهي تبتسم بسعادة كمن يقول : «مبروك.. الحقيبة جميلة بين يدي الصبي..»، ناولها الرجل بعض المال، همهمت ببعض الكلمات لم يستطع الأب فهمها، ثم رفعت يدها إلى السماء، لم يصعب على الرجل فهم ما تقول هذه المرأة الخرساء، شكرها بكلمات قليلة متفقداً كومة الثياب المستعملة، بينما أطالت المرأة تحديقها إلى صغيره النائم، بدأت تمسح بعض الدموع التي انهمرت دون إنذار، أحس الرجل بالتوتر، ألقى السلام وعاد من حيث أتى.
لم يستطع الرجل نسيان ما حدث، ظلت العيون المعلقة لتلك المرأة تشغل باله، «لكل منا مصيبته.. فليساعدها الله!»، قالها لنفسه وهو يعبر بثبات الحارات الضيقة ذاتها ليصل إلى الشارع العريض، مع ذلك لم يتمكن من إزاحة صورتها من رأسه، لمح أحد المارة وهو يهم بالدخول إلى منزله، اقترب من العجوز وحياه سائلاً عن تلك البائعة في آخر الشارع. «لابد أنك قابلت أم باسم..» أطرق العجوز رأسه وقال: «امرأة مسكينة.. فقدت زوجها وولدها الوحيد منذ بضعة شهور.. أرداهما قناص أمام عينيها .. على طريق عودة الصغير من مدرسته.. لم تستطع الاقتراب من جثتهما إلا بعد أن تأكد الجميع من مقتل القناص.. باتت ليالي الأيام تلك في الشارع ذاته.. وها هي اليوم تبيع ثيابهم وأغراضهم كي تستطيع تأمين قوتها»، لم ينتظر الأب انتهاء العجوز من كلامه، واندفع عائداً إلى الشارع ذاته، خفق قلبه بسرعة وهو يطرح بعيداً خيالات مخيفة أثارتها الحقيبة الحمراء بين يديه، احتضن صغيره بشدة واستمر يعدو نحو عمود الإنارة، لم يكن هناك أحد، اختفت كومة الثياب كما لو لم تكن هناك أصلاً، وقف الرجل عاجزاً يلتقط أنفاسه، حسم أمره بعد لحظات، سحب الحقيبة من يدي صغيره النائم ووضعها بجانب العمود، ثم مضى عائداً وهو يهمس في أذن صغيره مختنقاً بكلماته: «حبيبي.. سأشتري لك تلك الحقيبة البنفسجية التي أحببت.. سأشتري لك ما تريد.. سأشتري لك ما تريد..».