ما الذي يحدث هناك؟
دق الجرس، وانتهى نهار جديد من العمل، كان يوماً صيفياً حاراً تعيشه بلدة «فيرغسون» المنسية في ولاية «ميسوري» الأمريكية، وهاهم العمال يخرجون من ورشاتهم متثاقلين يجرون أقدامهم إلى بيوتهم كالعادة، لا أحداث مثيرة في هذه البلدة الصغيرة التي يحكمها انتظام شديد في إيقاع حياتها اليومية، تبدأ الأمهات بإعداد وجبة الغداء المتأخر للعائلة في الوقت الذي يعود فيه الشاب «مايكل براون» إلى منزله بعد أن أمضى نهاره في منزل جدته المريضة.
لا يعلم أحد ماذا كان يدور برأس الشاب وهو يمضي إلى منزله. اقتربت منه سيارة شرطة وتوقفت أمام حديقة بيته، جمد «مايكل» مرتعباً، وحدق في المسدسات التي أشهرها رجال الدورية في وجهه ضاحكين، إنها ليست المرة الأولى التي ترفع فيها الشرطة أسلحتها في وجه سكان البلدة، ولم ينته الأمر يوماً على خير. ارتعب الشاب وبدأ يجري، رافعاً يديه إلى الأعلى مستسلماً، لكن رصاصات رجال الشرطة أردته صريعاً في ثوان..
سمع الجميع أصوات الرصاص، وخرجوا من منازلهم لرؤية ما حدث، كان الصبي مستلقياً في بقعة كبيرة من الدم، سقطت أمه على الأرض بجانبه وأخذت تصرخ بصوت مختنق. بدأ السؤال عن التفاصيل، هربت سيارة الشرطة بعد أن أطلقت الرصاص على هذا الصبي الأعزل دون أي سبب..!! ووصف بعض شهود العيان ما حدث للأهالي، وفي غضون دقائق تحول الحشد إلى عشرات من الرجال الغاضبين.
بدأت الحادثة بتذكير سكان البلدة «السود» بواقع حالهم المزري، وخلال ساعات شهدت «فيرغسون» تجمعاً بشرياً لم يشهده أحد من قبل، تجمع العمال السود المتعبين في مواجهة «مشغليهم» في المصانع والورشات من السكان البيض الأثرياء، وتحولت مسيرات الشموع والتظاهرات السلمية في موقع الحادثة إلى قذف بالحجارة وتدمير بالزجاجات الحارقة لتلك المصانع والورشات أمام عجز شرطة البلدة عن فعل أي شيء لرد المتظاهرين، لم يعد الأمر متعلقاً بمقتل ذلك الشاب، كان ذلك شرارة لغضب أكبر وأعمق.
«لا نريد استغلالاً بعد الآن..»
بدأت كرة الثلج بالتدحرج منذ التاسع من هذا الشهر، وتفاقمت الأمور على مدى الأسابيع الماضية، شملت الدعوات بالتظاهر جميع أنحاء محافظة «سانت لويس» في الولاية، أخذت العائلات تدعو الجوار للمشاركة في جولة الغضب هذه، وفي المقابل، تجمع الكثير من المدرسين والجامعيين أمام الرجال الغاضبين ليلقوا أشد الخطابات تأثيراً، يقول أحدهم وهو يقف على كرسي خشبي في منتصف ساحة البلدة: «إننا نعطي أولئك البيض أموالنا، أولئك الناس الذين لا يعملون على الإطلاق، دون أن يملك أي منهم أي ذرة احترام لنا، إنهم مستعدون لقتلنا مثل الكلاب إن تأخرنا يوما عن الدفع!». بدأت الجموع بالتصفيق وسط صيحات الغضب المكبوت، لتبدأ موجة جديدة من تحطيم الواجهات وقذف رجال الشرطة بالحجارة. توحد الجميع تحت راية واحدة للمرة الأولى، الجميع في مواجهة أصحاب المعامل وأدواتهم من عناصر الشرطة وحفظ النظام. من الواضح أن ما يجري كان البداية فقط.
كانت عدسات الكاميرات خجولة للغاية في نقل الأحداث هناك، وهذا غير مستغرب في الولايات المتحدة الأمريكية على كل حال، لكن الغرابة جاءت من طرف الحركات اليسارية المحلية هناك، «السوداء» قبل غيرها، التي امتلكت تاريخاً مشرفاً في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في نضالها ضد الظلم والاستغلال. لقد أعربت عن خشيتها من الأساليب التي يتبعها أهالي «فيرغسون» في المطالبة بحقوقهم، وأعلنت عن تخوفها من تحول هذه الحركة الشعبية إلى ثورة عنصرية «ضد البيض»، وأرادت بدء عملية حوار «متعقل» بين السلطة المحلية هناك وممثلين عن العمال..!
لكن اقتراحهم هذا لاقى الكثير من الاستهجان بين الأهالي، الذي أرادوا للمرة الأولى منذ زمن إسماع صوتهم للجميع، وتحدث الكثير منهم أمام الصحافة المحلية عن مدى قصر النظر الذي تعاني منه تلك الطبقة المثقفة «السوداء» حين تتحدث بهذا المنطق، يقول أحدهم في مداخلة مباشرة على إحدى الإذاعات المحلية: «يظن الجميع في أمريكا بأن المجتمع الأسود هو مجتمع يشجع العنف وينميه، لكني رأيت البارحة إحدى الشابات وهي تضم شبان العصابات الذين كانوا يوماُ عالة عن مجتمعنا وهم يتقدمون معاً صفاً واحداً باتجاه سيارات الشرطة القريبة، لقد توحد الجميع تحت شعار جديد واحد، لا نريد استغلالاً من أحد بعد الآن..».
«ليسمعنا الجميع»
يتابع الناس العاديون إبداء آرائهم بما يحدث، إنهم يتحدثون بأبسط الكلمات عن الكثير من الأفكار الهامة، فيقول العامل «أندريه سميث» الذي شارك في أعمال حرق الورشات لمراسلة صحيفة «سانت لويس ديسباتش» المحلية: «أظن بأنهم قلقون الآن، إنهم لا يعرفون ماذا سيحدث بمتاجرهم ومعاملهم، سيسمعوننا الآن بالتأكيد لأننا أصبنا عصباً حساساً لديهم! علينا أن نريهم بأنهم لا يديرون كل شيء، نحن من نشغل لهم تلك المعامل! هذه هي الطريقة الأفضل ليسمعنا الجميع..».
ويتابع الرجل قائلاً: «إنهم يتهموننا بالعنصرية لأننا رفعنا صوتنا جميعاً كمجتمع أسود.. تعودنا على هذه الاتهامات التي نسمعها للأسف من أبناء مجتمعنا قبل الآخرين.. وكأننا نحن العنصريين.. نحن لسنا عنصريين.. نحن المضطهدين.. فقط لأننا أصحاب بشرة سوداء».. ويتابع شارحاً: «الجميع يعلم بان «سانت لويس» هي المكان الأخير التي ألغى قوانين العبودية ضد السود.. ويبدو بأن السلطة هنا ما زالت تعيش في ذلك الوهم.. دعيني أقول لك كيف يحصل أصحاب الأموال على ثرواتهم هنا.. يرفع أصحاب المعامل الضرائب.. وعند خروج الناس من أعمالهم تبدأ الشرطة بتوقيف الناس تحت حجج واهية وتأخذهم إلى المحاكم ويدفع الأهالي الأتعاب اللازمة لإخراج أولادهم من السجن.. لا.. لن يحصل هذا مجدداً..».
المواجهة الكبرى
رغم الانتقادات «المتعالية» من جهة، وتجاهل وسائل الإعلام الكبرى لهذه الأحداث من جهة أخرى، يبقى سكان «فيرغسون» إلى اليوم في الشارع، مستعدين للمواجهة الكبرى، بعد تم إرسال التعزيزات اللازمة إلى عناصر شرطة البلدية، ويبدو بأن الأمور ستأخذ منحى عنيفاً جداً، فالاشتباكات أصبحت شبه يومية في البلدة، وشهد الأسبوع الماضي وقوع العديد من الإصابات كان أشدها ما حدث في العاشر من هذا الشهر.
بدأت قوات الشرطة الخاصة بحماية المتاجر الكبرى كـ«وول مارت» و«كي مارت»، وأطلقت الرصاص والغاز المسيل للدموع في وجه المتجمعين هناك، لتأخذ المواجهات مجراها حتى الصباح ولتعلن بأنها لن تتوقف في وقت قريب، بالأخص بعد أن بدأت عدسات الكاميرات بالازدياد وبعد أن التهبت مواقع التواصل الاجتماعي بالدعوات للتضامن مع سكان البلدة.
الدعوات التي لم تعد «سوداء» فقط، فاشتملت على العديد من المراسلين و الصحفيين وعموم الناس على اختلاف «ألوانهم»، ولتصبح الحشود اليوم بالآلاف، تقف أمام منزل «مايكل براون»، مع والدته التي تحمل لافتة كتب عليها: «أتمنى لو أنك معنا يا مايكل!».