يسار صالح
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
«أقف أمامكم اليوم وقلبي يطفر بالحزن، إنه يوم بهجة وعيد بالنسبة لكم، لكنه يوم أتذكر فيه الكثير من المآسي التي حلت بشعبي، أذكر فيه ما فعلتموه منذ 350 سنة، يوم نهبتم قبور أجدادي وسرقتم ثمار أرضنا وقوت يومنا، يوم تحول فيه شعبي إلى عبيد يشنقون في الساحات، يوم فتحنا لكم منازلنا الدافئة في عز الصقيع، فشكرتمونا بالبنادق والقيود.. عيدكم اليوم ليس عيدي..»
تناولت «السندويشة» الصغيرة من يدي البائع، وهممت بأخذ القضمة الأولى، لذعتني رائحة «المخلل» الكريهة، توفقت قليلاً وبحثت بأصابعي عن قطعة اللحم التي يفترض أن تكون المكون الأساسي هنا، فلم أجد سوى لقمة صغيرة مغلفة بهباب أسود كريه، رميت ما بيدي على الفور وهممت بالخروج، لكن الإعلان الكبير على الواجهة استوقفني على الفور: «مبروك ..مبروك .. دخل مطعمنا اليوم موسوعة غينيس لأكبر سيخ شاورما في العالم..»، كان الإعلان بألوانه الباهتة وخطوطه الصاخبة يعود إلى عام على الأقل، بدا مقرفاً كما كانت تلك «السندويشة».
«حين تكون الوظيفة الأساسية للخطب والكتابات السياسية هي الدفاع عن سياسات لا يمكن الدفاع عنها أو تبريرها في الواقع، تصبح اللغة التي تستطيع جعل الأكاذيب تلبس ثوب الحقائق أداة حتمية لضمان استمرار هذه النظم. وهو ما يؤدي بدوره إلى تدعيم هذه اللغة الفاسدة المضلِّلة، وتقويتها حتى تًصبح مهيمنة ومسيطرة، بينما تُحارب اللغة الصالحة الكاشفة، بما يؤدي إلى اختفائها وتواريها»
يزور «عبد» الشاطئ كل صباح، يأخذ وقته وهو يقلب بيديه رمال البحر شارداً صوب الأفق، لم يعد يرغب في الحديث مع أحد بعد أن التزم الشاطئ طوال النهار، تعلقت عيناه الباهتتان بالأمواج الهادرة فلا يرد السلام ولا ينبس ببنت شفة، لكن الكثير يقال في داخله يرميه كل حين صامتاً مع الحجارة الصغيرة التي يقذفها صوب البحر، «عبد» عاتب على البحر، يعلم أهل القرية هذه الحقيقة عن الصياد الشاب، لقد خطفت ذات الأمواج شقيقيه ووالده وأسكنتهم العمق الموحش، يعلم الصياد «عبد» بأن «البحر غدار» لكنه لم يكن يتخيله بمثل هذه الوقاحة!
رفع الرجل رأسه المدمى ونظر إلى الشاب الواقف أمامه، فضحته ملامح وجهه المرتعد كأحد المتخرجين حديثاُ من المدرسة الحربية، أعاد تفحصه من رأسه إلى أخمص قدميه ورمى بين يديه رشاشاً خفيفاً ثم قال: «في بداية الحرب.. أمضيت عشر سنين في قتال النازيين في أفريقيا.. واليوم.. أقاتل النازيين على أرضهم.. في ألمانيا.. وبرفقتي هذه المجموعة الصغيرة من الرجال الأوفياء .. هذه الدبابة التي تراها أمامك هي موطنك الجديد..» أنهى كلامه وخطا بعيداً تاركاً الشاب يصارع ارتعاشه من أصوات الانفجارات المتلاحقة من حوله.
حسمت الأسابيع الماضية التوقعات حول جوائز نوبل السنوية الشهيرة، وتوج الفائزون في حفل كبير ارتاده صفوة المفكرين والمشاهير، لكن أصداء تلك الجائزة تتردد على الدوام لأسابيع لاحقة، فهناك دوماً من يشكك بصحة تلك الاختيارات، وفي هذه السنة بالذات، كانت التعليقات أكثر حدة، ودارت معظمها حول الكاتب الفرنسي «باتريك موديانو»، الذي فاز بجائزة نوبل للآداب هذا العام، ووصلت العناوين الصحفية إلى حد عنونت به مجلة «the Daily Beast» الأمريكية مقالها بالقول: «من هو باتريك موديانو بحق الجحيم؟!».
«هناك أسئلة لا مفر منها في أي زواج: بماذا تفكر؟ .. كيف تشعر؟ .. ما الذي فعلناه حتى وصلنا إلى هذه المرحلة؟» يفتتح الممثل الأمريكي «بين أفليك» الفيلم بهذه الجمل يلقيها بصوته الهادئ، في هذه الأثناء تثبت الكاميرا عدستها على رأس أشقر لامرأة تستريح على الوسادة لا نستطيع رؤية وجهها، لكن الخصلات الذهبية الناعمة تؤكد بأنه سيكون جميلاً، نعلم لاحقاً بأنه كذلك، إنها زوجته «أيمي» التي ستختفي بعد أيام في ظروف مريبة، يبدو زوجها «نيك» عاجزاً أمام هذا الأمر ثم تبدأ أصابع الاتهام بالإشارة إليه متهمة إياه بقتل زوجته، إنه الفيلم «Gone Girl» الجديد، أحد آخر «إبداعات» المخرج «ديفيد فينشر»، الأبرع في تحويل «العفن» إلى «فن»!
تبدو الإجابة بسيطة على هذا السؤال، حيث يحتل البحار الشهير «كريستوفر كولومبوس» قائمة المشاهير في صفحات التاريخ، على الرغم من أن تجربته أثبتت أنه ملاح فاشل لا يملك أي حس بالاتجاهات، كما أن «اكتشافه» المثير هذا قد اصطبغ على الفور بدماء «الهنود» من السكان الأصليين لتبدأ سنون مريرة تجاهلها كتبة التاريخ عن عمد، نعلم ذلك جميعاً، لكن الاكتشافات الأثرية الحديثة بدأت تؤكد رواية أكثر تشويقاً لم يسمعها الكثير منا من قبل، رواية قد تلقي «كولومبوس» بعيداً عن كرسي «المكتشف الأول».. رواية ترفع «العبيد» إلى مقام «حملة الحضارة» الأصليين!
«لقد كنت أنال الكثير من الجوائز، أحصل على الكثير من الثناء، كنت محاضراُ في صفوف الجامعة، حللت ضيفاُ في الكثير من المقابلات التلفزيونية، بل كنت أحد أهم الحكام في الكثير من المسابقات الصحفية، إلى أن قمت بكتابة هذه القصة، عندها أحسست بالخدعة التي أعمت بصري، لقد ظننت بأنني كنت أنعم بكل هذا المزايا لأني صحفي مجتهد وملتزم في عمله، وقد كنت مخطئاً، لقد عشت السنوات الجميلة تلك لأني لم أكتب فيها كلمة واحدة مهمة تستحق التعليق أو المواجهة».
لفحت المياه المالحة وجهه الشاحب، رفع رأسه نحو الأعلى ثم أغمض عينيه بتثاقل دون أن يستطيع الحراك، بدا وكأن يديه قد أصبحت قطعة أخرى من قطع تلك الخشبة السوداء التي يتشبث بها، بدأت ذكريات الساعات الماضية تتوالى تباعاً وهو يحاول تحريك قدميه في المياه دون جدوى، لفظ أنفاساً محترقة جرحت حلقه المتيبس، عاود المحاولة والتفت يبحث عن أي شيء آخر تحمله تلك المساحة الزرقاء الشاسعة، لا شيء سوى المزيد والمزيد من المياه..