أهلاً بكم في مدينة الأحلام!!

أهلاً بكم في مدينة الأحلام!!

ظن الجميع بأنها مزحة، لكنها ليست كذلك، ها قد ثُبتت الكاميرات ، وأخذ الصحفيون أماكنهم بانتظار بدء هذا المؤتمر الصحفي، الأخبار دسمة وسيكون هناك مئات الأسئلة، فقد استطاع المليونير «تيم دريبر» جمع الاهتمام الأمريكي والعاملين حوله، فهو على الدوام صاحب «أفكار جريئة» كما تعرف عنه الصحافة المحلية! لكن اجتماع اليوم يمهد لفكرة لم يسمع بها الشعب الأمريكي منذ زمن بعيد، وستعلن بداية عهد جديد من «الإمبراطورية الأمريكية» تصل فيه الفوارق الاجتماعية إلى حد لم تعرفه البشرية من قبل، يبدو الرجل جدياً في اقتراحه، يريد ابن كاليفورنيا البار «تقسيم» ولايته الشهيرة إلى ست ولايات جديدة، على أساس واحد فقط، ولايات للأغنياء وولايات للفقراء، وها هو يشير إلى خريطة كرتونية وضعت بجانبه مبتسماً وسط ذهول الصحافة وعدسات الكاميرات!

بدأت القصة منذ حوالي سنة، كان هذا الاقتراح حديث المكاتب الضيقة في «كاليفورنيا»، لكنه لاقى استحساناً كبيراً في أوساط رجال الأعمال وأصحاب المليارات هناك، وبدأت الأخبار تتوالى عن نية المليونير«تيم دريبر» تبني الفكرة ودفعها باتجاه الضوء، فتصدر هذا الخبر النشرات اليومية، مع متابعة دقيقة للإجراءات الرسمية التي ينوي هذا الرجل القيام بها لتحويل حلمه هذا إلى حقيقة.
سيحتاج الأمر تواقيع الآلاف من سكان الولاية على هذا القرار حتى يستطيع الصمود في المحاكم الفيدرالية كقضية تحتمل المراجعة، لكن إصرار «دريبر» وأموال داعميه قد تجعل من هذا الحلم الصعب أمراً واقعاً في القريب العاجل.
أرقام قياسية..
وللعلم فقط، تعد ولاية كاليفورنيا الأمريكية، بواقعها الحالي، المثال الأوضح عن فقدان أي حس للعدالة الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية، فهي الولاية الثالثة من حيث المساحة والأولى من حيث عدد السكان، وتمتلك رقماً قياسياً عالمياً من حيث عدد الأثرياء الذين يقطنون فيها، فهي الأولى عالمياً في احتواء أصحاب المليارات من كل مكان في العالم، وتقدم صناعة التكنولوجيا والترفيه فيها عوائد مذهلة للدخل القومي الأمريكي، وتعتبر الاقتصاد العاشر في العالم إن تم تصنيفها كدولة مستقلة، ويماثل الناتج المحلي الإجمالي لها ناتج إيطاليا. لكن، رغم كل هذا «الترف»، يعيش ربع السكان تحت خط الفقر وتعاني من ارتفاع كبير في نسب البطالة والتشرد أدخلها المركز الثالث بين الولايات من ناحية سوء المعيشة، هي باختصار المثال الأوضح عن القلة القليلة التي تملك كل شيء وتترك الفتات لمئات الآلاف من الفقراء في شوارعها.
لكن لم هذا الإصرار على تقسيم هذه الولاية؟! يبدو مبدأ التقسيم بشكله المجرد أمراً سلبياً تتحاشاه الكثير من الكيانات الاقتصادية. يشرح لنا صاحب هذه الفكرة المليونير، قائلاً بأن «كاليفورنيا أكبر من أن يتم حكمها تحت إدارة مركزية واحدة». يدعي الرجل بأن خطته ستساعد الأجزاء الفقيرة على تحسين أحوالها، لأن متطلباتها ستلقى آذاناً صاغية عند حكومتها المحلية المصغرة التي تستطيع تفهم المشكلة على الفور!
لقد فضحت الخريطة التي وضعت بجانبه مزاعمه على الفور، فالحدود الجديدة تفصل بين الأقسام الفقيرة والغنية من كاليفورنيا بسلاسة ودون خجل، «إنه يريد ترسيخ حالة عدم المساواة في أميركا إلى الأبد»، يقول البروفيسور «كوري كوك» أستاذ العلوم السياسية في جامعة «سان فرانسيكسو» ويضيف بغضب: «يريد ببساطة خلق ولايات جديدة غنية إلى حد جنوني وولايات تذوي من الفقر»!
الحلقة المفقودة
تحتاج كاليفورنيا عائدات الضرائب التي تجنيها الحكومة الفيدرالية من الأغنياء ليتم توزيعها على الجميع بالتساوي، وهذه هي الحلقة المفقودة هناك، فلا عدالة في التوزيع ولا نية صادقة في مساعدة المحتاجين. تحابي الحكومة الأثرياء وتقلل من حصتهم من الضرائب وترهق ما تبقى من الطبقة المتوسطة والميسورة بأرقام خيالية تقتطعها من مدخولهم، وبالتالي، سيلقى أي قرار «حكومي» بالتقسيم أصداءً إيجابية إن تم تسويقه بالشكل المناسب.
سيتخلص الأوفر حالاً من عبء المساعدة، وبالأخص في محيط يزخر بالكراهية والاحتقار للفقراء والمهاجرين، بعد أن أخذت العصبية العرقية تتماهى مع اتساع الفوارق الاجتماعية لنحصل في النهاية على مزاج مناسب لعملية التقسيم تلك، ولتصبح الهوة في مجالات التعليم والطبابة وتوزيع الدخل قنبلة موقوتة بانتظار الانفجار!
لم تبدأ هذه العقلية في كاليفورنيا، فقد شهدت السنتان الأخيرتان العشرات من القضايا التي تطالب بـ«إصلاح» النظام التعليمي عن طريق فصل التلامذة الأغنياء عن الفقراء في مدن ولايات: «لويزيانا» و«جورجيا» و«ألاباما» و«تكساس» و«تينيسي» وبالطبع «كاليفورنيا»، كما يفضل العديد من سكان تلك الولايات بالعيش في مدن مغلقة بالكامل تقع خارج أي نطاق حكومي، متحررة من جميع التزاماتها المدنية تجاه عامة مواطنيها، كما هو الحال في مساكن النخبة في جنوب كاليفورنيا وفيلات «وادي السيليكون» هناك، فهي وحدات سكينة مسيجة ومحمية تحرسها وتنظم أمورها وحدات من رجال أمن الشركات الخاصة، لا يوجد شرطي حكومي واحد هناك.
«مدن الفردوس»
يشبه حال تلك «المدن المثالية» مدينة «ساندي سبيرنغز» في ولاية جورجيا، التي لا تدفع الضرائب للحكومة الفيدرالية بعد أن «خصخصت» جميع مرافقها العامة وتحررت من جميع الالتزامات المالية فأصبحت المقصد الأمثل لأصحاب الملايين في الولاية، وللأسف، أصبحنا نرى الكثير من الإعلانات التي تمهد لإنشاء مثل «مدن الفردوس» تلك على الأراضي العربية كما تطالعنا الشاشات المصرية والخليجية على وجه الخصوص.
يعمل «تيم دريبر» وأمثاله بعقلية مشوهة، دون أن يقف أحد في طريقهم، ودن أن يحسب أي منهم حساباً لليوم الذي تبدأ فيه النزاعات بين «الولايات الغنية الأمريكية» و«الولايات الفقيرة الأمريكية» من أجل العدالة الحقيقية، عندها لن تنفع عقلية «الاستئصال الجراحي» للأقسام الفقيرة التي تعكر بسواد منازلها وسعال سكانها وصراخ أطفالها الأسوار البيضاء والحدائق الجميلة للمدن المثالية على الطرف الأخر من المدينة، وسيجد الكثيرون من أغنياء تلك البلاد نفسهم محاصرين في قصورهم الحصينة لا تفيدهم تلك (الأوراق الخضراء) في شيء!