«الحقيقة».. وبالوثائق..!!
تتصدر أخبار بلدة «فيرغسون» عناوين نشرة الأخبار على قناة «MSNBC» الأمريكية. تحولت أحداثها إلى حديث الساعة الآن بعد أن تجاهلها الجميع لبعض الوقت، بعد النشرة بدأت ساعة جديدة من التحليل مع المذيع الشهير «إد شالتز»، واستضافة ضيوف.. للمصادفة.. جميعهم من أصحاب البشرة السوداء، يبدو أن الأمر يحتاج لصك براءة من عقدة «الأبيض المستبد»، تحدث الجميع بـ«لباقة»، وتمنوا أن «تنتهي هذه الاضطرابات على خير»! ..
واختتم المذيع حلقته التحليلية بالقول: «هناك العديد من الجماعات المناهضة للحكومة في هذه البلاد، وهي تخطط لخلق الكثير من الإضرابات.. إن زيادة تسليح عناصر الشرطة وحفظ النظام ضروري للغاية وعليهم أن يستعدوا لمواجهتها!!»، ثم أشار إلى وثيقة سرية «مسربة» عرضتها الشاشة على الفور، هو يعرف ما يقول.. وكلامه «موثق» أيها السادة..!
أمعن المشاهدون في وثيقة تابعة لوكالة الأمن القومي الأمريكي تم تسريبها خلال الأيام الماضية، تتحدث عن معلومات «مؤكدة» تتنبأ بتصاعد نشاط «الحركات المناهضة للحكومة داخل الأراضي الأمريكية خلال السنتين القادمتين»، ويبدو أن هذا العبقري قد وجد التبرير المناسب لما يحدث هناك عن طريق هذه الوثيقة، وهناك الكثير من تلك التبريرات الجاهزة التي تنتظر أن تُعرض للناس، وهناك الكثير من الجهد الإعلامي الحكومي لمنع الناس من معرفة ما يحدث، والتحضير المكثف لمواجهة موجات الاحتجاج المتزايدة، لكن، ليس عن طريق الهراوات والرصاص المطاطي كما تفعل الشرطة، بل بالخبث والالتفاف حول الحقائق، المنهج الذي ميز الإعلام الأمريكي دوماً، واليوم يعمل على تفريغ التظاهرات من محتواها عن طريق لفت الانتباه إلى أي شيء آخر، لم تعد سياسة التجاهل والتعتيم فعالة بعد أن انتشر الخبر في كل مكان، فتداعت جميع تلك القنوات إلى «فيرغسون» لتنقل الأحداث عن طريق شاشاتها المشوهة، ولتصبح تلك الشاشات هي الحقيقة.
دراما كاذبة
تعرض CNN مؤتمراً صحفياً للمتحدث باسم قيادة شرطة «فيرغسون»، هو مجرد نقيب متلعثم مرتبك في الشرطة منحته بشرته السوداء منصب «المتحدث الرسمي»، إنه يشكر جميع من ساهم في تهدئة الأوضاع و«توعية» المتظاهرين، ويتمنى أن يحافظ الشارع على هدوئه.
في المقابل تفرد القناة تقريراً مفصلاً متجولة في أحياء البلدة صباحاً، تطرق أبوابها لتستقبلهم أم أو أخت، تقترب الكاميرا من ساكني المنزل وتستعرض «هواجسهم»، تقول إحدى الأمهات متهدجة: «أولادي يخرجون عند الظهيرة ولا يعودون حتى اليوم التالي، إنهم يرمون الشرطة بالحجارة وأنا خائفة جداً عليهم، أريد لهذه الأحداث أن تنتهي، لقد تعبنا من أصوات الرصاص والدخان المسيل للدموع.. كفى..». ينظر المذيع إلى الكاميرا ويرفع حاجبيه متأثراً: «هذا هو الوجه الذي لا ترونه عادة لهذه البلدة»! لا داعي لذكر الأسباب التي أشعلت تلك الاحتجاجات، ولا داعي لسؤال أي من المتظاهرين، دموع هذه الأم تكفي لكي يحسم المشاهد قضيته، علينا أن نطالب جميعا بإنهاء ما يحدث، مهما كان الثمن!
بالعودة إلى أصل تلك الاحتجاجات وشرارتها الأولى، بدأت القنوات الأمريكية الكبرى تفرد المزيد والمزيد حول تفاصيل مقتل الشاب الأعزل «مايكل براون»، وتتناولها، وربما أكثر من اللزوم. بدأت بالتحقيق في قصة الشرطة الرسمية التي أفادت بأن الشاب كان مخدراً ساعة الحادثة وبأنه حاول الاعتداء على الشرطة التي اشتبهت بأنه يحمل مسروقات من أحد المتاجر القريبة، وهي تعلم بأن مجرد التسليم الجزئي برواية الشرطة المستحيلة تلك يعزز من صورة «الرجل الأسود» النمطية الذي يتعاطى المخدرات ويسطو على المحلات، فعزفت على هذا الوتر مراراً وتكراراً مستشهدة بالخبراء الجنائيين والمحللين التقنيين عدة أيام، وأعطت لرواية الشرطة تلك مسوغاً لتصمد وتتحول إلى حجة معقولة، على الأقل في أذهان المتابعين الذين تعودوا على رؤية جميع «السود» كقطاع طرق وتجار مخدرات، واستمرت بذلك حتى بعد أن أثبتت التحقيقات الرسمية والفحوص الجنائية وشهادات السكان عكس ذلك، الجميع يعلم بأنه قتل بعد أفرغ فيه رجال الشرطة رصاص مسدساتهم في كافة أنناء جسده، والجميع يعلم ما كانت كلمات الشاب الأخيرة: «أنا أعزل.. لا تطلق النار.. أنا أستسلم.. أرجوك..».
حقائق مزورة
في المقابل، أمعنت العديد من القنوات في تعزيز الحالة الانفعالية العنصرية التي بدأت مع أيام الاحتجاج الأولى، وعملت على مساندة الحراك هناك من مبدأ دعم ثورة «السود» ضد «البيض»، لا ثورة «المقموعين» على «المتسلطين»، هي قنوات «سوداء» بالكامل إن جاز التعبير، لكنها تخدم أجندة «المستبد الأبيض»، الذي يتمنى بشدة أن تتحول صورة تلك الاحتجاجات المحقة إلى تطرف عنصري كي يستطيع قمعها فوراً وأمام الشاشات بحجة دعوتها إلى التمييز والتفرقة.
وركزت على تصوير ما جرى على أنه «عنف غير مقبول» لتصبح قضية الشاب المقتول هي الأساس، ويتلاشى الحديث عن مطالب تلك الجموع بالعدالة والمساواة الاجتماعية بالتدريج، ويتم اختصار كل تلك التظاهرات بـ«الغضب» و«الاحتجاج» لمقتله.
تم اعتماد هذا التكتيك أيضاً من قبل بعض الصحف الكبرى، وبالأخص بعد أن تم اعتقال مراسلي «واشنطن بوست» و«هافينغتون بوست» من قبل الشرطة أثناء الاحتجاجات، عندها بدأت تلك الصحف بالتركيز على انتهاك «حرية الصحافة» و«حق التعبير» لأيام، وتراجعت جميع القضايا الأخرى أمام «قضية» أولئك الصحفيين الذين تم احتجازهم لساعات ثم أطلق سراحهم على الفور..
الطعن في الظهر
يبحث الإعلام الأمريكي الرسمي على حجة جديدة على الدوام، قد يبدو مهتماً بما يجري بعد أن دفعه العالم كله لتسليط الضوء على ما جرى، لكنه يعرض الحقيقة كما يريدها أن تكون، إنه يصرخ مع المتظاهرين في الساحات ويطعنهم بخبث في ظهورهم بعد أن حسم أمره بتشويه ما يجري وتحويله إلى شر لا بد من التخلص منه.
لكن النار قد خرجت من تحت السيطرة الرسمية، وبدأت تتوسع لتشمل مناطق عديدة، ولن تنفع التصريحات الرسمية والتقارير الإعلامية على إخفاء كل هذا، العالم كله أصبح يسمع ويرى ما يجري يومياً هناك، كما أن البعض منا أصبح يعلم تماماً كيف ستؤول إليه الأمور إن تجاهلت السلطة مطالب الجموع الغاضبة وتذرعت بـ«وثائق مسربة» تتحدث عن «مخططات سرية» أو عمدت إلى مواجهة ما يجري بالقوة تارة وبالكذب تارة أخرى..!