«حرية.. مساواة.. استقلال»؟!
صعد على المنبر، ونظر إلى وجوه العشرات من الناقمين والغاضبين، كان يعلم بأن كلماته لن تلقى أذناً صاغية بين الحضور، لكنه يعلم أيضاً بأنه سيسجل موقفاً يذكره التاريخ إلى الآن رغم محاولات طمسه كل سنة، فالحشد الواقف أمامه يكره كل شيء فيه، من وقفته ومشيته وصولاً للون بشرته السوداء، أمسك بلحيته البيضاء الخشنة وبدأ هذا الرجل الأسود المسن بالحديث: «أيها الإخوة.. نجتمع اليوم في الرابع من تموز من العام 1852 لنحتفل بتوقيع «إعلان الاستقلال»، كما أسميتموه، الإعلان الذي سيضمن حقوق الناس على هذه الأرض الجديدة، لكني لا أرى فيه سوى غطاء قماشي سنغطي به الجرائم البشعة للسنين الكثيرة القادمة، فهذا الإعلان، يشرع وبصراحة استعباد السود من الناس، وإبادة السكان الأصليين حتى آخر رجل وامرأة، في سياق الجهد لخلق أمريكا الرأسمالية الجديدة..»!
من الطبيعي إذا ألا يسمع أحد بخطاب هذا الرجل المطول عن يوم الرابع من تموز منذ ذلك الوقت، إنه النقد الأكثر دقة وصراحة لهذا اليوم الكبير بالنسبة لجميع الأمريكيين، تجري فيه الاحتفالات الكبرى كل عام كيوم «الاستقلال» للولايات المتحدة الأمريكية، وتسترجع ذكريات جميع خطب «المؤسسين الأوائل» لتلك البلاد، التي تتحدث عن قيم «الحرية» و«الاستقلال» و«المساواة».
الكذبة الكبرى
لقد فضح «فريديريك دوغلاس»، المفكر والكاتب الأسود، والذي كان يوماً هارباً من عبودية الرجل الأبيض في الحقول، وبكلمات مختصرة حقيقة الأمر، وأكد على أن تلك الكلمات مجرد أفكار مجردة لا أساس لها على الواقع، فكتبة «إعلان الاستقلال» هم من البيض أصحاب المئات من العبيد، لإعلان «استقلالهم» من سطوة التاج البريطاني، والهدف من وراء كل هذا بسيط، بناء نظام استعماري استيطاني رأسمالي للسيطرة على كل تلك الأراضي دون أي تبعية للتاج وقيوده الكبيرة على نشاطاتهم.
ومن هنا يأتي حرص «توماس جيفرسون» و«جورج واشنطن» وبقية «المؤسسين الأوائل» من أصحاب رؤوس الاموال على إعلان الاستقلال، بعد أن فرضت الملكية البريطانية أمراً إجبارياً بإغلاق مستعمرات العبودية للسود يسري على الجميع، كان ذلك ضربة موجعة للنظام الرأسمالي المتكون حديثاً في الولايات المتحدة الأمريكية، فرأى الجميع هناك بأن من الأفضل إعلان «الاستقلال» عنهم!
لكن «ماذا يعني يوم الرابع من تموز للأمريكي الأسود أيها السادة؟!»، بهذه العبارة تابع «فريديريك دوغلاس» خطابه، «إنه اليوم الذي يرى فيه بوضوح أكبر من أي يوم آخر في السنة، بالنسبة له، احتفالكم هذا عار، وحريتكم المزعومة شيطانية، ووطنيتكم الكاذبة غرور فاقع، وأصوات بهجتكم فارغة بلا قلب، مناداتكم بالحرية والمساواة سخرية مرة، صلواتكم وترانيمكم واحتفالاتكم و»أعياد الشكر» التي تفتخرون بها هي بالنسبة له زوبعة من الأصوات لا معنى لها، هي احتفاء بقيم الاستغلال والخداع والاحتيال والهرطقة»، ويبدو بأن قراءة الرجل للأمر صحيحة ومتبصرة، فحال الأمريكيين السود اليوم ليس أفضل مما مضى على الإطلاق، وغطرسة الإمبريالية الأمريكية لم تهداً منذ تاريخ إعلان «الاستقلال» بل أصبحت أكثر قوة ووقاحة.
السود والعهد الأسود
يعيش السود الأمريكيون اليوم ، كبقية شركائهم، تحت سطوة الدولة البوليسية التي تقف في وجه مصالحهم على الدوام، وهم يتلقون معاملة خاصة من رئيسهم الذي يشاركهم لون البشرة ذاتها، ويتعرضون للاعتقالات غير القانونية والمعاملات الاستغلالية مع فشل واضح في ضمان حقوقهم، كما يعاني المهاجرون غير الشرعيين من أسواً استغلال لحقوقهم في العمل، ويجبرون على «خدمة» مشغليهم بأبخس الأثمان، كما أن عدداً منهم قد تم ترحيله بأعداد كبيرة بلغت رقماً قياسياً في عهد الرئيس الأسود «بارك أوباما»! أي أن النظام الأمريكي الحالي هو المرحلة الأكثر تقدماً من الحالة الاستعمارية الوقحة التي ألهمت خطاب «فريديريك دوغلاس» ذاك.
بمعنى آخر، تغيرت الأشكال لكن المضمون لم يتغير أبداً، تحولت الدولة الاستيطانية إلى دولة إمبريالية، مما يضمن استغلال الملايين من البشر حول العالم، بدلاً من مئات الآلاف في تلك البقعة الصغيرة في أمريكا الشمالية، حيث تملك الولايات المتحدة الأمريكية اليوم أكثر من ألف قاعدة عسكرية حول العالم، وتنفق المليارات كل سنة لعملياتها العسكرية في كل مكان على الأرض، تجاهلت 1.6 مليون عراقي الذين قضوا أيام «تحرير» العراق، وتناست دعمها للمجموعات المتطرفة التي تعيث اليوم فساداً في العراق، وليبيا، واليمن، والسودان، والعديد العديد من الأمكنة حول العالم.
العبور وحق البقاء
كما يطالعنا الكثير من كبار الساسة في أمريكا وفي كل حين بتصريحات تدل بشكل واضح بأن العنصرية لم تمت والتفرقة على أساس اللون أو العرق بقيت طوال تلك السنين، ففي حديث أخير لـ«هيلاري كلينتون» على قناة سي إن إن، أجابت وزيرة الخارجية السابقة بحزم على سؤال يتعلق ببرنامج وطني للتعامل مع المهاجرين غير الشرعيين لضمان حقوقهم، كان رد «هيلاري» واضحاً: «إذا تسنى لطفل ما أن يعبر سياج الحدود، لا يعني ذلك بأن له الحق في البقاء»!
على كل حال، سيبقى يوم الرابع من تموز عيداً وطنياً مميزاً للأمريكيين، فالعديد منهم على جهل تام بما حدث في تلك الأيام، إنه أسلوب متعمد من الإمبريالية الأمريكية لطمس كلمات «فريديريك دوغلاس» الفاضحة، ستصدح أصوات الاحتفالات في كل سنة، لكن احتفال من؟ وعلى حساب من؟ وبأي ثمن؟ لتبقى هذه الأسئلة رهن الأجيال المستقبلية في أمريكا والعالم.