ولايات «الكونغو» الأمريكية..
«حياً.. ميتاً.. حراً.. مسجوناً.. لا يهم.. أنا لست مهماً.. المهم هو بلدي.. المهم هو «الكونغو».. الشعب الذي تحول استقلاله إلى قفص كبير.. القفص الذي يحتجز الجميع في الداخل بينما ينظر المستعمر إلينا من الخارج..»
كتب «باتريك لومومبا»، المناضل الإفريقي والزعيم الوطني، هذه الكلمات في العام 1960، وأودعها في رسالة أخيرة لزوجته قبل أن يتم اغتياله بأيام عن عمر الـ 35 عاماً، لقد كان باتريك أول رئيس منتخب للكونغو بعد استقلالها، عندها عرفت البلاد سنين قليلة من الاستقرار انتهت بموته لتبدأ حقبة سوداء في الكونغو لم تنته فصولها إلى الآن، فتوالت الحروب الأهلية وحملات التطهير العرقي والقبلي، وازدهرت تجارة الرقيق وسيطرت الشركات الكبرى على موارد تلك البلاد الوفيرة، وتدهور الحال إلى حد لا يطاق، أما اليوم، فلا أخبار جديدة في بلد الستة ملايين قتيل، تستعرض بعض الشاشات لقطات خجولة من ذلك البلد المنسي بين الحين والآخر، لا يعلم الكثيرون بأن معظم أولئك الملايين قد قتلوا لأنهم الوقود الأمثل للآلة الإمبريالية المتوحشة، لقد تقاطرت أمام مناجمها الشركات الصناعية الغربية لاستخراج مادة «الكولتان»، المورد الطبيعي الأشهر في الكونغو، والذي يستخدم في صناعة الأسلحة والتجهيزات الإلكترونية الدقيقة، اقتتال قبلي ودماء في كل مكان، فيما عدا ذلك لا يوجد شيء يذكر.
لم نتحدث عن الكونغو اليوم؟
يأتي الجواب من مكان بعيد عن مآسي القارة السوداء، لكنه يبدو اليوم قريباً جداً، وذلك عندما دعا عضو الكونغرس الأمريكي «جون لويس» في منتصف هذا الشهر الجميع إلى التهدئة وضبط النفس بعد أحداث «فيرغسون» الشهيرة، فقال: «يملك الجميع الحق بالتظاهر، لكن بشكل سلمي وحضاري، إننا لسنا في الكونغو، نستطيع التصرف بمزيد من الرقي والحضارة»، حاول الرجل التمييز بين المكانين، لكن الفرق لم يبد ظاهراً للكثيرين في الشوارع.
يشعر الكثير من «السود» الأمريكيين بأن حالهم لا يختلف كثيراً عن أبناء «بشرتهم» في الكونغو، ربما لأن المبدأ واحد في نظر الرجل الأبيض: «استغلال السود لتحقيق الأرباح» حتى لو كلف الأمر حياتهم، قد تبدو المقارنة هنا غير موضوعية، فالعشرات يقتلون يومياً في الكونغو، بينما ينعم السود الأمريكيون ببعض الأمان، لكن التمعن في الأمر قد يحول تلك المقارنة المستحيلة إلى أخرى منطقية للغاية!
تحمل التغطية الإعلامية للأحداث في «الكونغو» وغيرها من دول التوتر «السوداء» طابعاً خاصاً، إنها تركز على مجموعة ضيقة جداً من الأفكار، أهمها وجود مجموعات من «السود» يقتلون مجموعات أخرى من «السود» دون أن يتحدث أحد عن سبب هذا الاقتتال، أو من يساهم في جعله الحدث اليومي للسكان هناك، أو حتى من يمدهم بالسلاح الذي يذكي نار الصراع فيما بينهم، فنرى المشاهد للعصابات المسلحة تجول الأدغال بوجوهها السوداء، لتنتشر نظرية «الأسود يقتل الأسود» السطحية للغاية على جميع الشاشات، وبمباركة أمريكية تدعم زعماء القبائل المحلية، فتتحول أحقاد أبنائهم إلى أداة «مسلحة» تنقل ثروات البلاد إلى الخارج بكل سهولة ويسر.
أسود هنا.. أسود هناك!!
بالإضافة إلى ذلك، تعتمد تلك القنوات على وسائل أخرى لتحويل الانتباه بعيداً عن أصل المشكلة، فالعنف ضد المرأة خبر دائم وهام على تلك الشاشات، حالات الاغتصاب والإهانة والتشريد للنساء من قبل «الرجل الأسود المسلح» تصنع الأخبار من جديد، ليتحول الحدث تلقائياً من حالة «سرقة دولية وإبادة جماعية لشعب بأكمله» إلى «انتهاك لحقوق المرأة» والذي لا يرقى – على الرغم من أهميته – إلى واقع الحال هناك، وهنا ستبدأ المنظمات الدولية «الإنسانية» بجمع المزيد من «التبرعات» وصنع المزيد من «الأفلام الوثائقية» التي تصور «قسوة الرجل الأسود» و«بدائيته» فيتحول في نظر المشاهد الأبيض إلى «نصف إنسان» يجوز التخلص منه حين تدعو الحاجة أو حتى دفعه لتوظيف وحشيته هذه في قتل أقرانه من «البدائيين»، هنا تظهر عقدة «السكان الأصليين» بوضوح في منابر الإعلام الأمريكي، «هنود» أم «سود» لا فرق، هم ليسوا بشراً من الأساس، على كل حال ستدر تلك الأفلام المزيد من الأرباح في الوقت ذاته ، فلا شيء يضيع، وكل لقطة أو حدث يمكن الاستفادة منه لكسب المزيد من المال!
لا تختلف صورة «الرجل الأسود» في أمريكا عن الصورة السوداء في الكونغو، نراه على الشاشات كتاجر للمخدرات أو زعيم لعصابة صغيرة تجوب الشوارع وتسرق المحلات، هو الرجل الجلف المتخلف العنيف البعيد عن أصول «اللباقة» اليومية، قدم يوماً من أفريقيا «أرض المتوحشين»، وحارب للحصول على حقوق لم يمض على إقرار الكثير منها إلا عقد أو اثنين من السنين، تلك الحقوق التي أخرجته من حقول القطن ومزارع السادة البيض بعد أن كان الفلاح والخادم والعبد، تلك الحقوق التي لم يعترف بها الكثيرون من الامريكيين البيض لتخرج من أفواههم بين الحين والآخر عبارات العنصرية المريضة، حتى وإن كان هؤلاء ساسة ومشرعين وأصحاب مناصب، هذا هو السبب الذي دفع إحدى وكالات الأنباء لتزوير مشاهد تدعي فيها قيام «مايكل بروان»، شرارة أحداث «فيرغسون»، بسرقة بعض الأغراض من محل مجاور لتبرير قتله على يد الشرطة المحلية، إنها النظرة التي لم تتغير يوماً، النظرة التي امتزجت مع انعدام العدالة الاجتماعية وازدياد الهوة بين مجتمعات النخبة «البيضاء» والمجمعات السكنية «السوداء» لتخلق بركاناً لن يهداً بسهولة.
الخروج من القفص
على «جون لويس» أن يعيد النظر فيما قال، أمريكا اليوم هي «الكونغو»، لكن بنسخة عصرية وناعمة، تتلاشى الفروق عندما تفضح انفعالات «السيد الأبيض» نواياه الخبيثة، الجميع عبيد في مزرعته الكبيرة، ولابد من مص دمهم حتى آخر قطرة، حتى وإن تطلب الامر الابتسام في وجهه والدعوة لنصرة حقوقه أمام الكاميرات، لقد تحدثت الأرقام و فاضت الشوارع بالمظلومين، لقد قرر الجميع الخروج من «القفص» الذي تحدث عنه «لومومبا»، ويبدو بأن هذا اليوم قد اقترب كثيراً..