«أبواب الحارة»!..
دخل «الزعيم» منزله الدمشقي الجميل. مرّ بسرعة أمام البحرة. هرولت بناته لتقبيل يديه، حانياتٍ صاغرات، لم يثنه ذلك عن «الزعيق»؛ يبدو أن إحدى بناته قد ارتكبت خطأ قاتلاً، لا يغتفر. لوح الرجل بعصاه الغليظة في وجهها. بالرغم من محاولات الأم العاجزة لرد غضب الأب عن ابنته البكر، إلا أنّه بقي مصراً على تربية تلك «القاصر». هدر صوته من بين شاربيه، واستمرت تلك المهزلة ليالي ثلاثاً
لقد أخذت قصص «الحارات» الكثير من وقتنا أيتها السيدات والسادة. أصبح الجميع يعلم بأنها فارغة تماماً من أي محتوى مفيد، مع ذلك يصر البعض على تصنيفها في إطار «التسلية البريئة»، حتى مع ظهور «نسخٍ» عربية أخرى من هذه «الملاحم»، التي تعمدت، في هذه السنة بالذات، على الإمعان في طعن التاريخ في الظهر..
بالرغم من محاولات القائمين والمهتمين على تقديم هذا العمل على أنه السرد التاريخي الأصدق للأيام الشامية القديمة، إلا أن الأمر بات مكشوفاً للمتلقي؛ العمل ببساطة جزء من آلة استثمارية تجارية واستهلاكية، أحداث المسلسل أصبحت تكرر ذاتها، ما يؤكد حقيقة نفاد الطاقات والأفكار، وتسطيحاً فاقعاً في تقديم الشخصيات، وفي افتعال الأحداث. ولعل الانسحاب المبكر للفنان بسام كوسا من المسلّسل- الذي أدى دور شخصية «الإدعشري» بنجاحٍ باهر في الجزء الأول منه- مثّل موقفاً استشرافياً صحيحاً إزاء الحال التي سيؤول إليها هذا العمل.
هذا ليس تاريخنا!..
نالت أجزاء مسلسل باب الحارة نصيبها من أقلام النقاد وأحاديثهم، وحازت على قدرٍ ليس بقليل من النقد والتفنيد، انصبّت بمعظمها حول مسألة الخروج المتكرر لأحداث المسلّسل عن السياق التاريخي الصحيح للبيئة الشامية، والسورية عموماً. بالرغم من ذلك، توالت الأجزاء مع كل رمضان دون أن تصغي لأيٍّ من تلك الأصوات؛ لم يهتم رعاة المسلّسل، على سبيل المثال، بعزلة «الحارة الشامية» المفتعلة عن محيطها الوطني. فدمشق، العاصمة، كانت في قلب الحدث السياسي، وصانعة له عبر تاريخها، وموقعها الجغرافي أهّلها لتكون مكاناً للتفاعل السياسي والثقافي والوطني؛ فلم تكن مجموعة من الحارات المنعزلة فحسب، تحكمها سطوة «العكيد» المحدودة الأفق، وترتضي فيها النساء قيود الذكورة، وتبقى على هامش الحدث. العمل لم يقدم شخصيات متعلمة أو مثقفة، وكأن دمشق كانت خالية من المدارس والجامعات! متجاهلاً أن مدرسة الحقوق في دمشق أسست عام 1913، أما جامعتها العريقة فأحدثت عام 1923، وكانت من أولى الجامعات في المنطقة!
«وطني».. ولكن بنكهة طائفية!
في الجزء الأخير (السادس) من المسلّسل، بلغ الابتذال ذروته؛ قرّر القائمون على العمل إسقاط أحداثه على مجريات الأزمة الراهنة، فتمخّض ذلك عن طبخة «وطنية» بنكهات «طائفية»!.. «أبو عصام»، ذاته، تحوّل فجأةً إلى زعيم «وطني»، يتشارك الهم الوطني ضد مخططات التقسيم الاستعمارية مع آخرين، ظلّوا مجهولين حتّى الحلقات الأخيرة من المسلّسل، لتتكشّف «هويتهم» لاحقاً على أنهم ممثلون لـ«طوائف» سورية. جرى ذلك من خلال إطلاق أسماء تلك الطوائف صراحة على «الوفود» القادمة من مختلف المحافظات السوري إلى دمشق، في مشهد مبتذل، أختزل الوحدة الوطنية بوحدة «المكونات الطائفية» للمجتمع السورية. المشهد المذكور لا يوازيه ابتذالاً سوى «غراميات» أبو عصام مع جاسوسة فرنسية، وقعت في حبه، وتحولت إلى زوجة «إضافية» له، لتصبح الخيانة أمراً مشروعاً ومقبولاً، طالما أن «الذكورة» أيضاً يستخدمها «الوطنيون» من شاكلة أبو عصام كسلاح ضد الاستعمار!
سيبقى باب الحارة مفتوحاً أمام جزء سابع. المشكلة ليست كلها هنا؛ فمع إقحام «مكونات» جديدة إلى «الحارة»، علينا، نحن السوريين، أن نتوقّع أن باب الحارة سيصير أبواباً كثيرة، يأتي منها الريح، وسيصعب علينا سدّها مع إصرار رعاة العمل على المضي في هذه «الملحمة» بلا بوصلة..