يسار صالح
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
نظر مضيف الحفل في تلك الليلة إلى الجمع الكبير، يعلم بأن الملايين يتابعونه اليوم وعبر الشاشات الاحتفالية السينمائية الأضخم حول العالم، ابتسم وقال مازحاً: «ها نحن نجتمع اليوم لنكرم أكثر نجوم هوليود بياضاً.. عفواً عفواً.. أقصد.. إشراقاً.. إشراقاً..» وسط ضحكات الجميع.
«بعد كل ما حدث، وبسبب ما قمت به من أفعال وما ادليت به من أقوال، يصعب علي المتابعة من موقعي الحالي ككبير محرري البرنامج الإخباري الليلي على قناة إن بي سي، لذا قررت أن أغيب عن أنظاركم لبعض الوقت بعيداً عن هذه المسؤولية كي لا أخسر من وضع ثقته بي وبهذه المؤسسة الإعلامية التي أنتمي إليها».
فتح الرجل الباب على مصراعيه، اتجه إلى غرفة قريبة وتناول حافظة الماء البلاستيكية القديمة وهو يطالع وجه زوجته الشاحب، جذبته من كتفه فوضع ما بيده على الأرض واحتضنها مبتسماً، اختنق صوت المرأة وهي تتلو له الصلوات في أذنه، أبعدها بحنان وتناول الحافظة مغلقاً الباب على عجل، بقيت المرأة تحدق بتوتر في الباب الخشبي القديم لوهلة لكنها سرعان ما بدأت بطرد جميع الوساوس من رأسها دفعة واحدة، «لم يبق لدينا قطرة ماء للشرب.. ما الذي يجب علينا فعله اذاً؟».
لمعت أضواء الاستديو الجديد، وبدأت الموسيقا المضطربة بالتصاعد في الخلفية معلنة بداية نشرة الأخبار، كان العد التنازلي قد انتهى للتو، وظهرت المذيعة المبتسمة أمام الكاميرا للمرة الأولى معلنة للجميع بدء اللحظات البكر من إرسال هذه القناة الجديدة، ألقت المذيعة «بيانها» المقتضب، ووعدت بأن هذه القناة ستكون «مميزة» عن البقية، لأنها «تمثلك» وتعلم بأنك تريد أن تعرف «الحقيقة»، البيان ذاته الذي طالع جموع المشاهدين مرات عديدة، وسيلاحقهم وهم يقلبون بين القنوات واحدة تلو الاخرى!
«قُتل عمّي على يد قناص في الحرب العالمية الثانية. علّمونا أنّ القناصين جبناء. يطلقون النار عليك من الخلف. القناصون ليسوا أبطالاً. والغزاة أسوأ»
فتح باب الغرفة واقترب بخفة من المدفأة المنصوبة في المنتصف، نظرت إليه زوجته المدفونة تحت تلة من الخرق بكل دهشة، رفع بيده زجاجة بلاستيكية صغيرة رسمت ابتسامة عريضة على وجوه الجميع، انتفض طفلاه بصخب من حضن والدتهم وبدأت موجة غير مألوفة من الرقص والضحك، تحلقت العائلة بسرعة أمام المدفأة الباردة وتعلقت العيون بالقطرات الخجولة التي بدأت تتسارع شيئاً فشيئاً لتملأ المكان برائحة عجيبة.
تراه في كل مكان هذه الأيام، «يتسلح» ببشرته السمراء وابتسامته الدمثة التي يتوجه بها نحو الملايين المتابعين للشاشات المختلفة، استحضرته قناة «الجزيرة» منذ بعض الوقت ليكون «الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي»، وكأن أفعال تلك العصابات تحتاج لمن يعرّف بها، لا تقلقوا، فمذيعة الجزيرة «تقرعه» بين الحين والآخر وترفع الصوت في وجهه إن لزم الأمر، لكنه يرد على الدوام بدماثة مفرطة تثير العجب وبأحرف عربية سليمة تبتعد عن قساوة الشين والخاء العبرية، وها هو قد أصبح اليوم زائر كل بيت بعد أن تناقلت الكثير من القنوات التلفزيونية تصريحاته الشبه يومية، كما تحظى صفحته على الفيسبوك بالكثير من الاهتمام، لا أخطاء إملائية تذكر في منشوراته الفصيحة، وفي بعض الأحيان باللهجة الفلسطينية المحلية!
فرك يديه بشدة ونفخ فيهما ما تبقى في صدره من أنفاس، الرحلة طويلة ولابد من بعض الراحة إن أراد البقاء على قيد الحياة هذه الليلة، أصوات البرية تزيد من وحشته فيرتفع العواء ويقترب مع هبات الرياح العاصفة، البرد قارس، ولم يبق على جسده الكثير من الثياب، فقد حول سترته الصوفية إلى مهد صغير، وها هو يلف تلك الكرة من الثياب بمزيد من الخرق القماشية لتحيط بطفلة لم تبلغ سنتها الأولى من العمر، صرخت الصغيرة بنزق فحملها نحو صدره، ما زالت الليلة في بدايتها والصقيع يزداد ضراوة.
«سمعت صوتاً قوياً.. وعلمت بأن خطباً مريباً قد وقع..» التفت العجوز المذهول وكأنه يحاول استيعاب ما جرى مرة ثانية.. «نعم.. لقد كان صوتاً قوياً.. ركضت على الفور إلى الخارج.. كان الجيران يصرخون ويركضون خائفين..» صمت لبرهة وتنهد ثم قال بحزم: «لقد كان «رافاييل» جاري وصديقي منذ أكثر من عشر سنوات.. إنه رجل محترم وأب رائع..» نظر إلى الكاميرا مباشرة وصاح: «لقد سئمنا من كل هذا القتل.. الموت يحيط بنا من كل جانب.. على الحكومة أن تفعل شيئاً حيال ذلك..»
دخل الرجل المقنع إلى قبو التحقيق المظلم، بانتظاره جسم ممدد عاجز عن الحراك، كانت الدماء تغطي الجسد الهزيل المرتجف بعد أن فردت أطرافه الأربعة بالحبال المشدودة، لن تربكك ملامح الرجل الشرقية وستستطيع تمييز جنسيته على الفور ، نظر «عمر» إلى الرجل المقنع بعين واحدة بعد أن أغلقت الندوب عينه الأخرى، لكن الرجل المقنع سرعان ما غطى وجهه بقطعة قماشية بعد أن جلس على صدره، انتفض «عمر» يريد إزاحتها على الفور، إنه يعرف جيداً ما سيحدث لاحقاً، سيصب الرجل المقنع المياه بغزارة على وجه «عمر» إلى أن تملأ المياه صدره، «الإيهام بالغرق» هو الاسم التقني لهذه العملية، لكن «عمر» لا يهتم لهذا الاسم.. إنه يشعر بأنه يغرق رويداً رويداً..