زلة لسان..
«بعد كل ما حدث، وبسبب ما قمت به من أفعال وما ادليت به من أقوال، يصعب علي المتابعة من موقعي الحالي ككبير محرري البرنامج الإخباري الليلي على قناة إن بي سي، لذا قررت أن أغيب عن أنظاركم لبعض الوقت بعيداً عن هذه المسؤولية كي لا أخسر من وضع ثقته بي وبهذه المؤسسة الإعلامية التي أنتمي إليها».
كانت هذه الكلمات الأخيرة لأحد أشهر المراسلين التلفزيونيين في الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنين، أدلى «براين ويليامز» بهذا التصريح قبل أن يتم إعفاءه بالفعل من منصبه الإخباري الحالي، لكن.. لم يكن الأمر يتعلق بأي «احتجاج إعلامي» أو «موقف نضالي» يدل على ندم من أي نوع، وهي ليست القصة «البطولية» لمراسل سئم الأكاذيب التي تعرض يومياً على الشاشات، فـ«براين» طرد ولم يتنح كما حاول أن يقنع متابعيه، والسبب ببساطة لأنه «كاذب كبير» كما وصفته الكثير من المقالات على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث وقع أحد أقدم المذيعين على شاشة إن بي سي الإخبارية الأمريكية في فخ لسانه، لتبدأ حملة «رجم» إعلامي علني بحق الأخير بحجة «خيانته لمبادئ الصحافة الأمريكية النزيهة!!».
«براين» الكذاب
تعود الناس على سماع «براين ويليامز»، كانت نظراته الواثقة ولهجته الرصينة المتكلفة تشد المتابعين إليه من مختلف أنحاء الولايات الأمريكية، يملك الرجل على الدوام قصة جديدة مثيرة، ويحاول جاهداً الاتصال بالحدث و«حشر» نفسه في كلفة التفاصيل، يتذكر المشاهدون تكراره لقصة احتجازه من قبل رجل مسلح في عملية سطو على إحدى المحلات منذ أكثر من عقدين من الزمن، يعاود «براين» سرد الواقعة كلما حملت الأخبار اليومية قصصاً عن احتجاز رهائن، كان الرجل مثالاً مميزاً للمبالغات الإعلامية التي لم توفر أي جهد لخدمة «المجهود الحربي الأمريكي» على حد قوله، إلى أن أدلى بأكبر كذبة في تاريخ مسيرته الإعلامية ولم يستطع تداركها بالسرعة المناسبة، حيث أفرد مؤخراً بعضاً من الوقت ليتحدث عن تغطيته لأحداث العدوان الأمريكي على العراق، وحاول أن يقنع المشاهدين بأنه كان على متن إحدى المروحيات التي تم استهدافها وإسقاطها بصاروخ، لكنه لم يصب حينها بأذى!
أثار تصريح «براين» هذا ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وبدأ الناس يعاودون نشر ما أدلى به أحد الجنود الأمريكيين الذين شهدوا على هذه الواقعة بالفعل، لم يكن «براين» البطل بالقرب من أي مروحية، وبالطبع لم يتم استهدافه بأي صاروخ، وسرعان ما تم إغراق حساب «براين» على الفيسبوك بهذه الردود بحثاً عن أي تبرير منطقي، عندها نشر «براين» تعليقاً مقتضباً أرجع فيه كل هذا الارتباك إلى «ذاكرته الضبابية» التي يبدو أنها خانته هذه المرة، لكنه لم يعلم بأنه قد أشعل شرارة مواقع التواصل لاجتماعي من جديد التي بدأت التدقيق بكافة أخباره السابقة، وضع الرجل تحت المجهر وبدأت الشكوك تحوم حول مدى مصداقية جميع الأخبار التي أدلى بها طوال تلك السنين، كتغطيته لإعصار «كاترينا» واقترابه لرؤية «جماعات مسلحة» وبأعداد مهولة تنتمي لعصابات ضواحي «نيو أورليانز» الفقيرة في عز الأعاصير والأمطار وهي تعتدي على عمال الإغاثة هناك، وتوسعت مجلة «نيويورك» في هجومها على «براين» وادعت امتلاك قناة «إن بي سي» ملفاً مطولاً ومدعماً بالصور والوثائق القانونية المناسبة يحوي الكثير من المغالطات الخطيرة في تغطية براين للأحداث العالمية، لكنها «تحفظت» عليه كي لا تسيء لصورة القناة ومصداقيتها الإعلامية.
مصداقية خلبية.. ومسؤولية فردية!
سرعان ما أصبح «براين» عندئذ حديث الجميع في أمريكا، وأصبح النكتة الأكثر إضحاكاً في برامج السخرية المسائية، تصدرت صوره المواقع الإخبارية فلم تعد إدارة قناة «ان بي سي» قادرة على تجاهل الأمر، أصدرت إدارتها بياناً عاجلاً وشديد اللهجة يستنكر ما فعله «براين» واصفة ما فعله «بالتصرف الخاطئ والغير لائق على الإطلاق.. وبالأخص لمراسل يحتل الكرسي الذي كان يشغله»، تنصلت القناة تماماً من أية مسؤولية ورمت ذلك «الكاذب» تفترسه كبريات الصحف والمجلات الأمريكية والعالمية كنموذج للمراسل البعيد عن النزاهة الإعلامية «التي طالما عملت تحت شعاراتها» كما صرحت القناة، ولم تغفر له تصريحات «بوب رايت»، المدير السابق لمجموعة «إن بي سي» الإخبارية، التي حاول فيها تلميع صورة «براين» واضعاً إياه بـ«أكثر المراسلين إخلاصاً للجهد العسكري الأمريكي»، وكأن «تزلفه» للإدارة الأمريكية وتلميعه لصورة تدخلاتها المشؤومة في كافة أنحاء العالم سيمنحه بعض التعاطف.
تدخل سريع!
تظن إدارة «إن بي سي» أنها تدخلت في الوقت المناسب، فقد أخذ الأمر يخرج عن السيطرة، بدأت جموع المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي بالحديث عن «مدى مصداقية التغطية الإعلامية الأمريكية في زمن الحرب»، واحتد الحديث عن تورط معظم الوكالات الإخبارية الكبرى في عملية تغطية منظمة للفظائع التي ارتكبها الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان والعديد من الدول الأخرى، توسع النقاش ليشمل مجموعة أكبر من المراسلين، عندها قررت «إن بي سي» التضحية بمراسلها الأغلى وتحمليه مسؤولية كل هذا، لتتحول القضية من معضلة كبرى في مصداقية الإعلام الأمريكي المحابي للسلطة، إلى خيال جامع لمراسل طموح يروي بعض القصص الكاذبة سعياً لمزيد من الاهتمام والتغطية، سقط «براين» كبش محرقة ولم يرغب أحد بالحديث عن سياسة الكذب الممنهج التي تتعمدها الحكومة الأمريكية عن طريق ماكينتها الإعلامية في الداخل والخارج حين يتعلق الأمر بتبرير سياساتها العدوانية الخارجية، لم تساعد «براين» تلك التقارير المكثفة من العراق والتي مدح فيها «أبطال الجنود الأمريكي» طوال فترة العدوان هناك، وها هو اليوم يرمى مع فضلات تلك السنوات السوداء من التاريخ الأمريكي والتي يريد الجميع هناك نسيانها، لم يغفر له أحد «زلة اللسان» هذه بحثاً عن أي تبرير لما حملته تلك الحقبة من تناقضات واضطرابات، وما ستحمله خلال السنين القليلة القادمة.