مطر العطاش..

مطر العطاش..

فتح الرجل الباب على مصراعيه، اتجه إلى غرفة قريبة وتناول حافظة الماء البلاستيكية القديمة وهو يطالع وجه زوجته الشاحب، جذبته من كتفه فوضع ما بيده على الأرض واحتضنها مبتسماً، اختنق صوت المرأة وهي تتلو له الصلوات في أذنه، أبعدها بحنان وتناول الحافظة مغلقاً الباب على عجل، بقيت المرأة تحدق بتوتر في الباب الخشبي القديم لوهلة لكنها سرعان ما بدأت بطرد جميع الوساوس من رأسها دفعة واحدة، «لم يبق لدينا قطرة ماء للشرب.. ما الذي يجب علينا فعله اذاً؟».

أطل برأسه من مدخل منزله، كانت الأصوات ما زالت تتصاعد من حوله، رائحة البارود ملأت الجو، وهدير الرصاص ما زال حاضراً، لا يعلم أحد ما الذي يحصل أو لم يطلق أحد الرصاص، صفير صاخب يسبق كل تلك الانفجارات التي لم تهدأ منذ الصباح، كان يوماً استثنائيا بالفعل، ابتسم ابتسامة صفراء وهو ينظر إلى جيرانه وقد خرج كل منهم «يستطلع» الأجواء من على شرفاتهم وشبابيكهم، عائلات بالكامل ترفع رؤوسها للأعلى علها تجد تفسيراً لهذا الجحيم الصباحي الهابط من السماء، «حظ عاثر.!»، يهمس لنفسه: «فرغنا من المياه في هذا اليوم المميز بالذات!».
كان مشواره طويلاً كالعادة، لابد له من عبور ثلاثة حواجز كي يصل إلى خزان المياه المتنقل في نهاية الحارة، يدرك بأن أحداً لن يسمح له بالمرور في مثل هذه الأجواء، لابد من سلوك الطرقات الفرعية، وبسرعة، اليوم الخميس وقد يرحل صاحب «الصهريج» باكراً، يذكر وجهه جيداً وهو يجلس على قمة خزان المياه، يشير بأصبعه إلى السماء ويقهقه ضاحكاً: «لن تصيبني قذيفة الآن.. هبطت عمارة كاملة على رأسي ولم أصب بخدش.. لن أموت الآن»، يجامله زبائنه بابتسامة وهم يتمايلون حاملين قوارير المياه البلاستكية الثقيلة، «الله يحميك يا أبو أحمد..»، يهز رأسه بغرور ويتناول أتعابه، ثم يعاود الطرق على الخزان بصخب.
صفرت السماء منذرة بقذيفة جديدة، أحنى الرجل رأسه بحركة لا إرادية لكن شيئاً لم يحدث، توقف قليلاً ومسح العرق عن جبينه و تابع المسير، أصبحت أصوات الرصاص أكثر حدة، بات واضحاً بأن الرصاص كان يصدح من جانب واحد، اختار بسرعة شارعاً ضيقاً عابراً وسط نظرات الناس، «ما الذي يفعله هذا المجنون في هذا الوقت؟»، رمقته العيون من داخل المحلات وعلى أبوابها، تدرأ الجميع بالسقوف وتحت الشرفات، يعلم جميعهم بأنها لن تحميهم من أية قذيفة شاردة، لكنها أفضل من السير حاسراً في منتصف الطريق، يثبت البعض نظره في السماء دون أن يعير انتباهاً لعابري السبيل، وكأنهم ينتظرون شيئاً ما، «يا ليتها تمطر..» همس الرجل لنفسه وتخيل مياهاً صافية تهطل من السماء بدلاً من هذه النيران، لا داعي عندها لهذا العناء، ماء السماء أنقى من صهريج «أبو احمد»، تسارعت أفكاره وهو يشاهد وجوه الجميع المثبتة إلى الأعلى، أحس الرجل بوحدة غير مألوفة، لكن شيئاً غريباً لفت انتباهه، كان هناك ثلاثة أولاد يساعدون والدهم في رفع حافظة بلاستيكية كبيرة مملوءة بالماء من على عتبة باب منزلهم، لم يقدر على منع نفسه من الابتسام، هز الأب رأسه وبادله الابتسامة.
صفرت السماء من جديد، ولحقها صوت هادر هذه المرة، تصاعد دخان كثيف من نهاية الطريق دفع الرجل إلى العودة عدة خطوات إلى الوراء، كان لابد من تغيير الطريق من جديد، نظر الرجل إلى ساعته متبرماً وانعطف عند أول شارع، فوجد نفسه مباشرة أمام شارع رئيسي مزدحم، لفح وجهه هواء ساخن وأنصت إلى صوت صراخ مكتوم، وضع الحافظة الفارغة خلف ظهره وحث خطاه يقطع الشارع متوجساً، كانت هناك سيارة تحترق في منتصف الطريق، غطى وجهه بطرف كمه بعد أن اختنق صدره برائحة بشعة، تجمدت قدماه لبرهة وهو يطالع امرأة حافية تقف أمام السيارة المحترقة، كان وجهها أسود كالفحم تغسله خطوط دموعها، بدا وكأنها فقدت جميع حواسها فانتصبت شاردة دون حراك، صفرت السماء من جديد فلم تتزحزح، ركض الرجل على الفور مبتعداً عن الطريق، «ما هذا اليوم المجنون؟»، رفع صوته بأنفاس مقطوعة.
أحرق الدخان عينيه، لم يعد قادراً على الاحتمال، تصاعدت أصوات الرصاص إلى حد مجنون، ولم يفصل بينه وبين صهريج «أبو احمد» سوى بضعة أمتار، نهض واعتلى حاوية مقلوبة ليستطيع الرؤية بشكل جيد، لعن حظه العاثر على الفور، لم يكن «أبو أحمد» هناك، لا شيء في نهاية الشارع سوى بعض الإطارات المشتعلة، قفز نحو الأرض وهو ما زال يشتم صارخاً، وضع الحافظة خلف ظهره وتابع الهرولة عائداً من حيث أتى، تلاحقت أصوات الانفجارات ترافقه وهو يدور في الزواريب الصغيرة وينعطف يمنة ويسرة باضطراب شديد، عادت ملامح الشوارع مألوفة لناظريه، يبدو أنه اقترب كثيراً من المنزل، تذكر زوجته الشاحبة، كان عليه أن يستمع إليها، لابد انها قلقة جدا الآن، تمهل قليلاً بعد ان هدأت أصوات الانفجارات لبعض الوقت، لكنه توقف تماما بعد أن وصل إلى مدخل حارته الصغيرة، كان الدخان الأسود يملأ المكان، رفع رأسه بعد أن سمع أنّات مألوفة، حاول مختنقاً إزاحة الدخان والغبار، تابع خطواته العمياء متعثراً بالركام والحجارة، لكنه تجمد في مكانه بعد أن لمح سريراً خشبياً مهشماً تأكله النيران، بدأت عيناه تألف المكان، إنه يعرفه جيداً، أفلت الحافظة البلاستيكية من يده وحاول الصراخ دون أن تقو رئتاه على إطلاق أي صوت.