فوبيا ألوان..
نظر مضيف الحفل في تلك الليلة إلى الجمع الكبير، يعلم بأن الملايين يتابعونه اليوم وعبر الشاشات الاحتفالية السينمائية الأضخم حول العالم، ابتسم وقال مازحاً: «ها نحن نجتمع اليوم لنكرم أكثر نجوم هوليود بياضاً.. عفواً عفواً.. أقصد.. إشراقاً.. إشراقاً..» وسط ضحكات الجميع.
كانت هذه كلمات «نيل بارتيك هاريس» منذ بضعة أيام، لقد تم اختيار هذا الممثل الصاعد لتقديم حفل جوائز الأوسكار هذه السنة، قد ينظر البعض إلى هذا النوع من الاحتفالات على أنه تكثيف مبالغ به للثقافة الأمريكية الاستهلاكية ومفهومها المشوه عن تقدير المواهب، لكن متابعة تفاصيلها يشي بالكثير من الخبايا، فهي لم تتوقف يوماً عن كونها انعكاساً لأحداث السنة ذاتها بشكل أو بآخر، حتى وإن كان ذلك عن طريق تجاهل تلك الأحداث أساساً بشكل متعمد وفاضح، لأن ذلك ما يحدث في أغلب الأحيان، يكفي فقط أن نطالع ما قيل على خشبة تقديم الجوائز هذه السنة، أو نطالع ما كتب قبيل الحفل وما بعده من تعليقات في الصحف وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، هناك اضطراب يرقص على إيقاع الشوارع، اضطراب يحاول الجميع إخفاءه بابتسامة متكلفة كالعادة.
أمور عالقة!
سبق الاحتفال ضجة غير اعتيادية، فقد تم ترشيح الفيلمان «سيلما» و«القناص الأمريكي» لجائزة أفضل فيلم هذه السنة، يتحدث كل منهما عن أحد موضوع مختلف تماماً لكنها يمثلان بشكل أو بآخر عمق انقسام الداخل الأمريكي حول العديد من القضايا المصيرية، فالأول يستعرض حياة المناضل الأمريكي الأسود «مارتن لوثر كينغ» بقليل من التفصيل ولأول مرة، لقد اعتادت السينما الأمريكية على ذكر الرجل في سياق تاريخي محدود، لكن نسخة هذه السنة كانت أكثر مباشرة وموضوعية وعلى قدر كبير من الأمانة التاريخية، وفي توقيت مناسب تماماً إن تم النظر إليه في سياق ما جرى من غليان شعبي في مجتمعات السود الفقيرة، يقابل كل ذلك من الطرف الآخر «القناص الأمريكي» الذي أثار بدوره ضجة لا بأس بها حول معالجة الولايات المتحدة الأمريكية «أمورها العالقة» حول العالم، بدا فوز أحد الفيلمين مشكلة محتمة، لمن ستتعاطف لجنة الجوائز إذاً، كان الحل بسيطاً فاز الفيلم «الرجل الطائر» بالجائزة، فيلم ثالث تماماً، ظن الجميع بأن اللجنة حققت هروباً ناجحاً من معضلة الألوان، ربما لم تظن بأن لعنة لون آخر تترصدها، اللون الأسمر!
يتحدث الفيلم «سيلما» عن تفاصيل الحركة الشعبية التي قادها «مارتن لوثر كينغ» منذ عدة عقود نصرة لحقوق «الملونين» في أمريكا، اعتادت لجنة الجوائز على «تقدير» ذلك النوع من الأفلام بطريقتها الخاصة، ما زال الجميع يتذكرون ما حدث السنة الماضية حين فاز فيلم «12 سنة من العبودية» بحفنة كبيرة من الجوائز، وتحول المسرح حينها إلى حفلة «نفاق» علني استخدمت الوجوه السوداء لـ«تبييض» مراحل مخجلة من تاريخ العبودية الأمريكية البشع، ووضع ندم «الرجل الأبيض» تحت الأضواء وكرمته اللجنة بالجوائز على حساب العديد من الأفلام الأكثر استحقاقاً هذه السنة، لكن الوضع تغير مع «سيلما» هذه السنة، الفيلم يتحدث عن «ثورية الغضب الأسود» لا عن «عذابه»، عن سعيه للتغيير لا عن مكارم الرجل الأبيض لمساعدته، استغرب البعض تلاشي تلك المظاهر التكريمية هذه السنة، لكن أولئك الناس لم يدركوا بأن الأفلام «السوداء» لا تشبه بعضها، ليس من وجهة نظر اللجنة على الأقل، التي منحته جائزة واحدة فقط.
أما في الجانب «الأبيض»، فيلم «القناص الأمريكي»، حياة القناص الأمريكي «كريس كايل» الذي أمضى أكثر من أربع دورات في صفوف البحرية الأمريكية، والذي أردى أكثر من 250 عراقياً بدم بارد، واعترف في أكثر من مناسبة بأنه لا يقيم لحياة الضحايا أي وزن، وبالتالي سيحاول الفيلم تلميع صورته قدر الإمكان، صنفه النقاد كفيلم مناهض للحرب، لكن للأسباب الخاطئة تماماً، الأسباب التي تصب في تكريس العنجهية الأمريكية المعتادة، لا يعي الكثير من الناقدين في منطقتنا ذلك، بل يتجاهلونه عمداً في بعض الأحيان متذرعين بأن ما نراه يعد «خطوة إيجابية» في اعترافه بأن الحرب الأمريكية فعل سيء ومهين للإنسانية، لكنه في الحقيقة «خطوة رجعية» كبيرة تمنح للقاتل سلسلة طويلة من التبريرات تهمل الكثير من الجوانب الوحشية للحرب، وتخرج دماء الضحايا من النقاش منذ البداية، خسر الفيلم الجائزة المنتظرة على كل حال، لكنه ربما حصل على الضجة الإعلامية التي يريدها.
ركوب «الأمواج»..!
انتصر «الرجل الطائر» في سباق الأفلام هذا السنة، وأخذ نصيبه الوافر من الجوائز، فيلم عبثي إلى درجة العبقرية، ويحتوي بداخله لمحات تجديدية في الأساليب التقنية التي يستعملها المنتجون والمخرجون عادة، ربما يعود الأمر إلى طاقم «غير أمريكي» بالكامل، حيث يظن المرء بأن الفيلم قد صور في المكسيك عند قراءة شارة النهاية التي تسرد أسماء المشاركين في العمل، لا يوجد شيء «أبيض» في هذا الفيلم سوى من ظهر أمام الكاميرا، لم يفوت المخرج «اليخاندرو غونزاليس انرياتو» هذه المناسبة للحديث عن هذه الموضوع بالذات، وبالأخص مع تصاعد الجدل حول قانون المهجرين الجائر الجديد الذي تنوي الحكومة الأمريكية إصداره وتطبيقه قريباً، فقال بكل وضوح بعد استلام جائزته: «أتمنى أن يستطيع الجيل الجديد من المهجرين العيش بكرامة لا تمس، كما عاش الجيل الأقدم منهم، وأنا أصلي على الدوام كي نستطيع بناء هذه الأمة العظيمة من المهجرين»، صفق الجمهور مطولاً لهذا الخطاب غير المتوقع، كما صفق للكثير من الخطابات المشابهة، وقف البعض احتراماً للممثلة «باتريشيا أركيت» في حديثها عن ضرورة المساواة بين الجنسين من ناحية الأجور، عاود المغني الأسود «جون ليجند» تذكير الجميع بحقوق السود والأقليات، بدت السهرة وكأنها حفلة خطابات متسلسلة، ربما نظر إليها البعض بأنها «ركوب للموجة»، لكن الجديد كان الاعتراف بوجود «موجة» من الأساس، هذا هو الأمر الذي ربما سيدفع لجنة الجوائز على الاعتياد عليه في السنين القادمة، وربما ..التحضير له بشكل أكبر.