قصة باردة
فرك يديه بشدة ونفخ فيهما ما تبقى في صدره من أنفاس، الرحلة طويلة ولابد من بعض الراحة إن أراد البقاء على قيد الحياة هذه الليلة، أصوات البرية تزيد من وحشته فيرتفع العواء ويقترب مع هبات الرياح العاصفة، البرد قارس، ولم يبق على جسده الكثير من الثياب، فقد حول سترته الصوفية إلى مهد صغير، وها هو يلف تلك الكرة من الثياب بمزيد من الخرق القماشية لتحيط بطفلة لم تبلغ سنتها الأولى من العمر، صرخت الصغيرة بنزق فحملها نحو صدره، ما زالت الليلة في بدايتها والصقيع يزداد ضراوة.
كسر قطعة صغيرة من البسكويت، وضعها في فمه وأخذ يلوكها ببطء وهو يراقب أنفاس الصغيرة المنتظمة تنفثها بخاراً مضطرباً في الهواء، أخرج ما في فمه ووضع قليلاً من هذا المعجون العجيب على إصبعه وأخذ يطعم الصغيرة النهمة محاولاً إلهاءها قليلاً لتتوقف عن الصراخ. لم يعرف يوماً كيف يتعامل مع الصغار، ولم يكن ليظن يوماً بأنه سيصبح المسؤول عن طفلة يشاركها سوء الحظ على طول طريقه الطويل، بدأت شفتاها الباردتان بالتهام البسكويت من إصبعه فتدغدغه، يبتسم الشاب ويمعن النظر في ذلك الوجه الوديع، لكن موجة قارسة تنتزعه من شروده فيلتفت حوله ويخفي رقبته تحت ياقته بعصبية.
مضغت الطفلة القطعة بأكملها، كسر قطعة أصغر وأعد «وجبة» أخرى ربما تساعدها على تحمل برد هذه الليلة، نفخ في يديه وفركهما بسرعة ثم احتضن الصغيرة من جديد، زفرت العاصفة القريبة هبات باردة للغاية فتأوه من البرد بصوت مسموع، نظر عاجزاً إلى الصغيرة التي بدأت تصرخ بصوت مبحوح، اعتدل في جلسته وجذب بعض الأغصان القريبة وغطى بها نصفه السفلي، كانت الأوراق رطبة ومليئة بالمياه، مد يديه إلى جيب بنطاله وتفقد ولاعته وعلبة السجائر الفارغة: «آه.. لوأن هناك سيجارة واحدة فقط»، همس لنفسه فخرج البخار كثيفاً من فمه، رفعت الطفلة يدها وأطلقت صوتاً مرحاً، فتوقف الشاب ساكناً ثم بدأ يطلق أنفاساً متقطعة من أنفه كالقطار، حركت الطفلة قدميها بمرح وأخذت تنتفض بحبور من داخل صرتها السميكة.
أعجبته اللعبة، أخذ يرسم أشكالاً لا تحصى في الهواء، هذا حصان ينفث لهباً، وهذه شاحنة كبيرة تطلق نفيراً محبباً، رقصت الطفلة في مهدها وأنارت ضحكاتها ذلك المكان الموحش، قهقه الشاب من قلبه إلى أن عاجله سعال حاد أخرجه من «عرضه الفني»، أخذ يسعل بشدة، فوضع الصغيرة جانباً مرتعداً من شدة البرد. توقف السعال لكن نوبة الصقيع كانت قد نالت منه، اشتدت الرياح فنظر إلى الصغيرة وقد أغمضت عينيها من الرقص والتعب، وضعها بالقرب من صدره والتف حولها لكي لا يوقظها، ظهره مكشوف للريح العاتية الممتزجة بندف الثلج. أدرك الشاب بأن العاصفة قد بدأت للتو، بدأ جسمه يرتجف بشدة، لكن أصوات الرياح بدأت تتلاشى رويداً رويداً في مخيلته، استسلم جسده المتجمد للتعب، وأخذت الذكريات تتسارع في رأسه، «خذها.. أرجوك أن تأخذها معك..» هكذا قالت له المرأة وهي ترفع بالصغيرة إليه من الأسفل، «معك.. قد تملك فرصة»، بدا وجه الأم مألوفاً! يذكر جيداً كيف مد يده ليلتقط الطفلة من بين يدي والدتها بعد أن ارتفعت المياه في قاربهم، طبعت الأم قبلة صغيرة على خد طفلتها ثم بدأت العوم. ضم الطفلة نحوه دون أن يشعر، دفعه أحد العمال بعيداً مغلقاً الكوة على مجموعة من العائلات الحبيسة في غرفة المحركات دون أن يبالي بصرخاتهم، كان هذا الإجراء كفيلاً بإيصال القارب الهزيل إلى السواحل القريبة، بكى حينها بكاء مراً وهو يسرح شعر الطفلة التي لم تتوقف عن الصراخ.
انتفض بسرعة يريد الخروج من سيل الذكريات الموجع، فتح عينيه بصعوبة، «ما زالت نائمة»، أغمض مستسلماً، لم يعد قادراً على تحريك قدميه، أحس بدفء مفاجئ يسري في بدنه، غرق من جديد في صور الماضي وأحس بأن النهاية قريبة، بدا وجه والدة الصغيرة أكثر إشراقاً، كانت تبتسم بحنان وهي تمد يدها الدافئة فتلمس جبين الشاب الخائف، يعلم الآن لم كان وجهها مألوفاً للغاية، همس كلمة أخيرة من قلب العاصفة : «أمي..»، واستسلم لسبات طويل لن توقظه هذه المرة صرخات الصغيرة، لم تتوقف الطفلة عن البكاء حتى الصباح، فأيقظت رعاة القرية القريبة على حدث غير اعتيادي على الإطلاق.
تناقلت وسائل إعلامية يونانية خبر عثور فلاح على طفلة سورية تبلغ من العمر 4 سنوات إلى جانب جثة على بعد 300 متر من نهر «إيفروس»،وقد بدا بأن المتوفى كان يحاول حمايتها من البرد، وبحسب الأوراق التي عثر عليها مع الرجل تبين بأنه يحمل الجنسية السورية، ويبلغ من العمر 32 عاماً، حيث نقلت جثته للمشفى الجامعي في «ألكسندربولوس»، وقد رجح المعنيون أن الطفلة كانت قد قضت 10 ساعات قبل العثور عليها وتحويلها للمشفى الجامعي، حيث تلقت الإسعافات الأولية وهي الآن بصحة جيدة.