سهرة عائلية
فتح باب الغرفة واقترب بخفة من المدفأة المنصوبة في المنتصف، نظرت إليه زوجته المدفونة تحت تلة من الخرق بكل دهشة، رفع بيده زجاجة بلاستيكية صغيرة رسمت ابتسامة عريضة على وجوه الجميع، انتفض طفلاه بصخب من حضن والدتهم وبدأت موجة غير مألوفة من الرقص والضحك، تحلقت العائلة بسرعة أمام المدفأة الباردة وتعلقت العيون بالقطرات الخجولة التي بدأت تتسارع شيئاً فشيئاً لتملأ المكان برائحة عجيبة.
أشعل الرجل عود الثقاب بكل حذر، وألقاه على الفور في قعر المدفأة الموحش، زأرت القطعة الصماء وبدأت الألوان البرتقالية والزرقاء تتعالى من داخلها، وضع أحد الصغار يده على بدنها المعدني، فزجرته أمه على الفور، ما زال سطحها بارداً لكن صوتها القوي بدا «مغرياً» للغاية، نهضت الزوجة بحيوية وأحضرت إبريقاً صغيراً من الشاي، وضعت الإبريق على سطح المدفأة، وجلست بجانب زوجها بعد أن قبلت رأسه بحنان، ابتسم الرجل واعتدل في جلسته وأشعل سيجارة بعد أن لفها بكل عناية، مجّ نفساً طويلاً وأراح رأسه إلى الوراء.
«آه لو أنهم يعلمون»، قالها الرجل لنفسه وهو يراقب قطرات المازوت المتسارعة، لقد كان نهاراً استثنائيا بالنسبة له بلا شك، لقد انتظر هذه الفرصة لوقت طويل، خمس عشرة سنة بالضبط، خمس عشرة سنة من العمل المتواصل في قسمه المتواضع، هو موظف بسيط في إدارة النقل في المدينة، وهو أحد المسؤولين عن مستودعات الوقود في قسمه، لا يحبه أحد هناك، ولا يهتم كثيراً لذلك، يتشاجر يومياً مع مديره، ومع رفاقه، ومع الجميع، يصيح عالياً كلما عاجله أحدهم بالمقولة المعهودة: «استفيد.. وخلي غيرك يستفيد»، سمعها مراراً من مديره وبكل صراحة، لكنه يأبى أن يماشي التيار، حبس ضحكة خافتة وهو يتذكر اليوم الذي لَكَمَ فيه شقيق المدير على وجهه بكل ما أوتي من قوة، «كان يريد أن يملأ سيارته الخاصة من مستودع الوقود الخاص بي.. وبالقوة.. هه.. السماء أقرب له»، كلفته الحادثة شهراً في السجن، خرج منها ضاحكاً وهو يرمق زوجته التي لم تتوقف عن البكاء، «اسكتي يا امرأة.. فضحتينا».
عاود النظر إلى قطرات المازوت، بدأت تواترها ينخفض بحدة، كان لون المازوت قاتماً ورائحته كريهة، ضرب بإصبعه «الطاسة» فعاودت القطرات جريانها الطبيعي، «مازوت زبالة» همس لنفسه، «لا يريد أحد هذا النوع من الوقود»، لقد قام الموظفون بتبديل الكميات الجيدة بأخرى رديئة، صعد الكثير من الأدراج وقابل العديد من المدراء دون أي جدوى، لم يعد يستقبله أحد منهم بعد أيام، بقي منتظراً أمام باب الوزارة أربعة أيام دون أن يسمح له أحد بالدخول، عاد إلى غرفته الصغيرة يائساً، رمى أكداس الأوراق على الطاولة وهو يرمق زملاءه الشامتين من الشباك، لف سيجارة غليظة بيديه المرتجفتين، أشعلها وغبّ منها نفساً طويلاً، شتم الجميع متمتماً بحنق وابتلع الدخان مع حرقة مؤلمة، لكن نظراته ثبتت فجأة وهو يرمق زجاجة بلاستكية صغيرة منسية على الطاولة.
«إنها تكفي»، همس لنفسه وهو ينهض متمهلاً عن الكرسي، اقترب من الزجاجة وأخفاها في جيب سترته الواسعة، «خمس عشرة سنة تكفي أيضاً..»، أخرج مفاتيحه الكثيرة ووقف للحظة أمام باب مستودعه الضخم، «ما الذي ستقوله سهام؟»، تخيل زوجته وهو تعض على شفتها السفلى وترمقه بعينين جاحظتين «عيب يا رجل.. حرام.. عندك أولاد لا تطعميهن حرام»، نفض خيالاته بسرعة وتمتم بنزق: «هي زجاجة واحدة.. واحدة.. سوف يقومون بتوزيعه للناس في النهاية.. إنهم يفعلون ذلك دائما مع تلك النوعية الرديئة.. أنا آخذ حصتي فقط.. أقل من حصتي.. زجاجة واحدة.. واحدة»، اندفع إلى الداخل وملأ زجاجته بمزيج لزج من الوقود الأسود، لف الزجاجة بنصف ورقة وأعادها بعناية إلى جيبه.
رمى لفافته في كوب الشاي، لم تعمل المدفأة كما يجب، لكنها منحت بعض الدفء للعائلة في هذه الليلة الباردة، لم يكن يعلم بأن قارورة صغيرة قد تحدث مثل هذا الفرق، نظر إلى زوجته وهي تحتضن صغيريها النائمين، ابتسمت في وجهه بكل حنان، لكن صوتاً قوياً انتزع الزوجان من أحلامهما، تصاعد سخام أسود في المكان وهدرت المدفأة بصوت عظيم، صرخ الصغار كمن استيقظ من كابوس، تراجعت الجميع بعيداً عن المدفأة التي بدأت تملأ المكان برائحة كريهة، كان يجب أن تتوقع العائلة ذلك، كانت القطرات تتساقط متقطعة ببطء شديد، وهواء الشتاء القوي تكفل بالبقية، اقترب الرجل بحذر بعد دقائق، ولوح بيده يزيح الدخان من وجهه، أطرق إلى الداخل ليرى وجهاً أسود ينعكس على بقعة واسعة من السخام العنيد اللزج!