دعاية.. «سمراء»

دعاية.. «سمراء»

تراه في كل مكان هذه الأيام، «يتسلح» ببشرته السمراء وابتسامته الدمثة التي يتوجه بها نحو الملايين المتابعين للشاشات المختلفة، استحضرته قناة «الجزيرة» منذ بعض الوقت ليكون «الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي»، وكأن أفعال تلك العصابات تحتاج لمن يعرّف بها، لا تقلقوا، فمذيعة الجزيرة «تقرعه» بين الحين والآخر وترفع الصوت في وجهه إن لزم الأمر، لكنه يرد على الدوام بدماثة مفرطة تثير العجب وبأحرف عربية سليمة تبتعد عن قساوة الشين والخاء العبرية، وها هو قد أصبح اليوم زائر كل بيت بعد أن تناقلت الكثير من القنوات التلفزيونية تصريحاته الشبه يومية، كما تحظى صفحته على الفيسبوك بالكثير من الاهتمام، لا أخطاء إملائية تذكر في منشوراته الفصيحة، وفي بعض الأحيان باللهجة الفلسطينية المحلية!

لا يهتم الرائد «أفيخاي أدرعي» كثيراً بواجباته الحربية، ويبدو بأنه يخصص جل وقته للعمل الإعلامي بأشكاله المختلفة، فهو اليوم الوجه الإعلامي الوحيد الذي تستخدمه بعض القنوات العربية للاستماع إلى «وجهة النظر» «الإسرائيلية»، يبدي الرجل بآرائه حول كل شيء تقريباً، وكان له الكثير من التعليقات أيام العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، امتلأت صفحته بفيديوهات القصف الإسرائيلي بالصواريخ وإصابتها للأهداف الثابتة والمتحركة بدقة عالية، بالإضافة إلى ما تسجله كاميرات القنابل الذكية الموجهة تلفزيونياً، كما أنه يخص الجنود العرب العاملين في صفوف الجيش الإسرائيلي بالكثير من التحية، يرسل باسمه معايدات متكررة للمسلمين والمسيحيين منهم في جميع مناسباتهم الدينية في محاولة دائمة للتذكير بـ«تنوع الجيش الإسرائيلي» كما يسميه، عندها تتلقى صفحته الكثير من الشتائم والتعليقات السلبية، لكنها تصب في النهاية في زيادة شهرته وتوسيع دائرة متابعيه، لا أجندة إعلامية عربية فعالة تقف في وجه هذا النمط المحترف من الدعاية الصهيونية سوى الكثير من الشتائم، وهذا ليس بجديد.. لكن.. هناك بعض الاستثناءات.

الصورة لا تقول الحقيقة..

وضع «أفيخاي» على صفحته الفيسبوكية صورة لامرأة عجوز وهي ترتشف بكل خفة من زجاجة ماء تناولتها من جندي إسرائيلي يجلس أمامها، ثم ذيل صورة الجندي «الحنون» وهو يرفع الزجاجة إلى شفتي العجوز بالتعليق التالي: «الصورة تتكلّم أفضل من ألف كلمة»، وسرعان ما تحولت هذه الصورة إلى حديث الساعة وتناقلتها العديد من الصفحات لتصبح محور سجال طويل للتحقق من صحتها، كما أشار مراقبون إلى أن الناطقين الإعلاميين باسم الجيش «الإسرائيلي» أطلقوا منذ أسابيع حملة كبيرة عبر وسائل الإعلام المختلفة بنشر صور يظهرون فيها مساعدة الجيش للفلسطينيين في إطار تحسين صورة الجيش أمام العالم في ظل الحديث الفلسطيني الرسمي عن التوجه لمحكمة الجنايات الدولية، لكن الصحافة الفلسطينية استطاعت تفنيد تلك الدعاية المزيفة عن طريق شهود عيان أكدوا بأن الجندي ذاته قد ترك رصاصة في رأس العجوز بعد أن أنهت شرب الماء مباشرة!

الشهيدة «غالية أبو ريدة»..!! 

كان رد الصحافة الفلسطينية العاجل مثيراً للاهتمام، فقد انتقلت خاطفة من حالة المتلقي العاجز إلى حالة المدافع الحازم، وهو أمر لا نراه كثيراً في الآونة الأخيرة، حيث نجح الصحفي «أحمد قديح» من سكان بلدة خزاعة في خان يونس والتي شهدت مجازر إسرائيلية مروعة خلال الحرب على غزة، في تكذيب رواية «أفيخاي» بسرعة قياسية، وأضاف بأن المسنة العاجزة «غالية أحمد أبو ريدة» والتي ظهرت بالصورة تلك، قد أعدمت على يد جنود الاحتلال بإطلاق رصاصة على رأسها من بعد متر واحد، وبقيت تنزف حتى استشهدت، وأشار إلى أنه حصل من عائلتها على صور عقب استشهادها وفي المكان الذي أعدمت فيه، قام بنشرها لاحقاً، كما أنه حصل على تقرير طبي يوضح إصابتها بطلق ناري في الرأس.

وسرعان ما وافقه الصحفي إياد أبو ريدة، مراسل شبكة «فلسطين الآن» الإخبارية، وأحد الشهود على الجريمة، وأكد أيضاً أن الاحتلال أعدم المسنة «غالية أبو ريدة» بدم بارد خلال اجتياحه للبلدة وذلك عقب التقاطه صورة لها وهو يسقيها شربة ماء، لاستغلالها في تجميل وجهه القبيح الذي بانت بشاعته أكثر في العدوان الأخير، يضاف إلى ذلك ما صرح به الصحفي الفلسطيني «مثنى النجار» الذي أجرى تقريراً مفصلاً عن الحادث، وانتهى إلى كتابة خلاصة التقرير على صفحته قائلاً: «أقول لكم إن من في هذه الصورة من ذوي الإعاقة البصرية ولا تقوى على المشي، قام الاحتلال بإعدامها خلال العدوان الأخير وهي من سكان بلدة خزاعة، وارتقت أبو ريدة شهيدة برصاص الجنود الذين يدعي أفيخاي أنهم شربوها الماء!». وختم كلمته بالقول: «هذه هي قمة الإنسانية التي تريدها فنحن لكم بالمرصاد!».

ردود هزيلة..!

لم يهتم «أفيخاي» بجميع تلك الردود، وبقيت تلك الصورة تتردد في الفضاء الإلكتروني لأسابيع، وسط سيل كبير من شتائم المتابعين، كما لا يمكن إهمال الاستخدام المفرط للآيات القرآنية والأحاديث النبوية  في مكان وسياق لا يناسبها على الإطلاق، بالإضافة إلى أنّ بعض العرب يتركون تعليقات مشجعة و فخورة بالجيش الإسرائيلي، وبالعبرية، ، لنحصل على خليط هزيل لا يرتقي أبداً لمواجهة أمثال «أفيخاي» من أدوات الدعاية الإسرائيلية المنظمة التي تستثمر بخبث وسائل التواصل الاجتماعي بغية نشر الكثير من الأفكار التضليلية واللعب على أوتار التناقضات الحساسة في المجتمعات العربية، فتختفي الحرفية والمهنية لتحل محلها الشتائم الرخيصة، وتهمل الكثير من الشرور العنصرية التي يرزح تحتها «مجتمع» الكيان الصهيوني الداخلي وجرائمه المتكررة ضد الإنسانية وتقتصر الحكاية على العبوس والصراخ والنواح والتقريع الفارغ، ربما لا يتطلب الأمر أكثر من تجاهل متعمد لهذا «المسخ»، لكن ذلك يبدو صعباً للغاية، هناك من يريد ألا تختفي سحنته السمراء عن شاشاتنا.