«شيزو.. مريكا»
دخل الرجل المقنع إلى قبو التحقيق المظلم، بانتظاره جسم ممدد عاجز عن الحراك، كانت الدماء تغطي الجسد الهزيل المرتجف بعد أن فردت أطرافه الأربعة بالحبال المشدودة، لن تربكك ملامح الرجل الشرقية وستستطيع تمييز جنسيته على الفور ، نظر «عمر» إلى الرجل المقنع بعين واحدة بعد أن أغلقت الندوب عينه الأخرى، لكن الرجل المقنع سرعان ما غطى وجهه بقطعة قماشية بعد أن جلس على صدره، انتفض «عمر» يريد إزاحتها على الفور، إنه يعرف جيداً ما سيحدث لاحقاً، سيصب الرجل المقنع المياه بغزارة على وجه «عمر» إلى أن تملأ المياه صدره، «الإيهام بالغرق» هو الاسم التقني لهذه العملية، لكن «عمر» لا يهتم لهذا الاسم.. إنه يشعر بأنه يغرق رويداً رويداً..
هذا أحد المشاهد التي افتتح بها الفيلم Zero Dark Thirty قصته، أحد أفلام السنة الماضية التي نالت العديد من الجوائز التكريمية الفاخرة، تحدث البعض بـ«عتب» منتقداً «قساوة» مشاهد التعذيب، رغم أن حالات «الإيهام بالغرق» ليس خافية على أحد بعد أن تحدثت عنها الكثير من التقارير التلفزيونية والصحفية طوال العقد الأخير، استمرت حالة الإنكار، كان «البعبع» طليقاً حينها، يظهر «بن لادن» على الجزيرة رافعاً سبابته لتبدأ حملات تبريرية لوحشية رأيناها بأم أعيننا وفي أكثر من مكان، تناسى الكثيرون صور المجندة الأمريكية الجالسة على «تلة» من المساجين العراة في سجن أبو غريب، وصورة طوق الكلاب الذي ربطته حول عنق أحد المعتقلين ضاحكة، لكن تقريراً حديثاً ظهر للإعلام أعاد إلى الأذهان كل هذه المشاهد، تنجح الولايات المتحدة الأمريكية في أن تذكرنا دوماً بحقيقتها.
«وسائل التحقيق المحسنة»!!
كان التقرير «صادماً» للجمهور الأمريكي كما أفادت التعليقات الإعلامية حول الموضوع، حيث نشرت لجنة من الكونغرس وصفاً مخيفاً لبعض من التقنيات المستخدمة من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية للمعتقلين على خلفية أحداث 11 أيلول، وكان «الإيهام بالغرق» ألطفها، مقاطع مطولة تحدث عن حرمان من النوم وتعذيب بالموسيقا الصاخبة و التهديد ببتر الأعضاء وذبح الأقرباء واغتصاب الزوجات، مروراً لإجبار المعتقلين على النوم في توابيت لأسابيع وإيقافهم على أقدامهم المكسورة بعد أن قيدت أيديهم للأعلى، انتهاء بالبدعة الأمريكية الجديدة التي أثارت الضجة الكبرى: «الإطعام الشرجي» حيث دفع الحمص المطحون في مؤخرات المعتقلين لأسباب لم تكن تتعلق دوماً بضرورة تغذيتهم! تلت المتحدثة باسم الكونغرس المقاطع من التقرير عاقدة الجبين، بينما ظهر الكثير من الأعضاء أمام العدسات في حالة صدمة تامة أثناء استماعهم لها، وكأن أحدهم لم يشاهد يوماً فيلماً أمريكياً حربياً، كما حمل البيان أضحوكتين مميزتين، تمثلت الأولى في حصر عدد المعذبين بـ 119 فرداً فقط لا غير، كما ثبت عدم تورط ستة وعشرين منهم بأي أعمال إرهابية! وكانت الثانية باختتام البيان بالقول: «أمريكا كبيرة بما فيه الكفاية للاعتراف بأخطائها وواثقة بما فيه الكفاية بعدم تكرار أي من تلك الأخطاء»!
لا ترقى أي من صنوف التعذيب التي ذكرها التقرير إلى حقيقة ما يجري في المعتقلات الأمريكية، لكن ردة الفعل الاعلامية حوله تثير المزيد من التعجب، تتحدث CNN قائلة بأن وكالة الاستخبارات المركزية قد كذبت «على نفسها» وعلى وزارة العدل ووزارة الدفاع ومكتب التحقيقات الفيدرالي ومكتب رئيس الجمهورية ومجلس الشيوخ والوسائل الإعلامية كافة حول ما يجري من تعذيب في أقبية المعتقلات، وحول فعالية «وسائل التحقيق المحسنة» كما تسميها، وكأن الوكالة تعيش في عالم شيطاني آخر تبتعد فيه عن الدولة الأمريكية الملائكية، وهذا ما دفع بأحد المسؤولين السابقين في الوكالة إلى التلميح حول تورط الجميع في هذا الأمر، كان ذلك بعد أن «حشره» مذيع قناة NBC الأمريكية بالكثير من الأسئلة فرد مزمجراً حانقاً قبل أن يتمالك نفسه أمام الكاميرا، تتابع القنوات المحسوبة على الإدارة الحالية عرض المزيد متهمة إدارة الرئيس الأمريكي «بوش» بكل ما جرى «شاكرة» إدارة أوباما على تحقيق هذا «الإنجاز»، ترد قنوات أخرى لتبرير ما جرى ، لمكافحة الإرهاب «ضرورات» تبيح «المحظورات»، وسرعان ما تختصر الحكاية إلى حرب انتخابية بين الجمهوريين والديمقراطيين، «لم نكن نعلم.. لم لم تخبرونا بذلك؟» يردد الجميع، في مسرحية هزلية سمجة، أما نحن، فلا تنديد عربي على الإطلاق، لا تصريح رسمي متوقع من أي حكومة في محيطنا «المعذب» بعد أن توالت التعليقات الرسمية المستنكرة من الكثير من الدول، هناك بعض التقارير الصحفية الخجولة التي تستخدم نفس المصطلح «المهذب» في بعض وسائل الإعلام العربية بعد ترجمته الحرفية «الأمينة»: «وسائل التحقيق المحسنة»!
«لا أستطيع التنفس..»
تتوالى فصول المسرحية في مكان آخر، الآلاف في الشوارع يصرخون: «لا أستطيع التنفس.. لا أستطيع التنفس» في إشارة إلى جريمة قتل بائع السجائر «ايريك غاردنر» خنقاً منذ بضعة أيام بعد أن أحاط به مجموعة من رجال الشرطة محاولين إخضاعه للاعتقال، صوّر أحد المارة الجريمة المؤلمة بكاميرا جهازه المحمول وسمع الجميع كلمات «ايريك» الأخيرة المختنقة: «لا أستطيع التنفس.. لا أستطيع التنفس» حتى فارق الحياة، بالطبع، تمت تبرئة الشرطي من جميع التهم الموجهة إليه و تبين بأن «إيريك» مصاب بالربو! لم يعد بائع السجائر الضحية، «لقد كان يبيع السجائر بشكل غير قانوني، وقاوم اعتقاله من قبل الشرطة، فكان لابد من إخضاعه»، هذا بعض مما يقال على الشاشات، لكن صورة ركبة الشرطي وهي تضغط على رقبة «إيريك» بينما تنغرس قدمه الأخرى في وجهه حتى يلفظ أنفاسه بقيت راسخة في أذهان المتظاهرين، وها هي تترجم اليوم بحركات مستمرة في شوارع المدن الكبرى وصلت منذ أيام إلى قطع الطرق الرئيسية للعاصمة. ومع ذلك، يبقى الإعلام الأمريكي يعاني من تلك الشيزوفرينيا البغيضة التي تحاول أن تفرض البلادة على الجماهير الأمريكية، وكأن لا رابط منطقياً بين هذا التقرير وما يرونه هذه الأيام من احتجاجات تغلق شرايين أمريكا وتتصدر أخبارها العالمية، الكذب يريح من أوجاع الضمير، ويبعد شبح الحقيقة المزعجة، كما أننا في موسم الأعياد الآن.. دعونا لا نكره بعضنا من أجل هذه الأمور الصغيرة!