يسار صالح
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
حملت الصحافة الرقمية منذ انطلاقها، أولى المؤشرات المخيفة لعمالقة الصحافة الورقية التقليدية، كان لمظهرها العصري ولسهولة استخدامها الأثر الأكبر في تخفيض أعداد المشتركين والمتابعين لكبرى الصحف والدوريات التقليدية، فمن يستطيع إلقاء اللوم عمن يستغني عن شراء جريدة الصباح مقابل متابعة أخبارها جميعها على صفحة إلكرتونية واحدة..
لم يصدق عينيه للوهلة الأولى، لكن ملمس الرمال وأصوات الأمواج العاتية كان أوضح من أن يتجاهله المرء، كانت رحلة طويلة ومتعبة، لم يتوقع أن يشهد لها نهاية على الإطلاق، إنها «أوروبا» أخيراً، وها هو يخطو بحذر على شاطئ القارة كمستكشف تغمره الِغبطة، سرعان ما يلتفت نحو رفاقه ضاحكاً وهم يهمّون بالنزول من القارب، لكن وجوههم بدت شاحبة متجهمة، يمسح أحدهم دمعة خجولة ويرفع وجهه نحو السماء، بينما يحمل آخر طفلاً لم يتوقف عن البكاء لساعات، تصدم الحقيقة صديقنا الشاب للمرة الألف، إنها ليست نهاية الرحلة المتعبة، إنها البداية فقط..
لم يستغرق الأمر بضع دقائق، لم يكن صف الانتظار طويلاً كما هي الأحوال عادة، وقف “دانييل” أمام عاملة المطعم ماكدونالدز الشهير في مدينة مانشستر البريطانية، بعد أن بلغ به الجوع حداً لا يطاق، لقد أنهى نوبته الأولى من عمله المضن، ولم يضع لقمة في فمه طوال النهار، بدأ بطلب وجبته المفضلة من الهمبرغر، لكن الموظفة عاجلته بنبرة حادة: «نحن لا نقدم الطعام للمشردين هنا.. هذه هي التعليمات هنا.. عذراً سيدي..» ثم مالت برأسها نحو اليمين قليلاً وصاحت: «التالي..»!
كانت صورة اعتيادية للغاية، ابتسم أمام الكاميرا وهو يزرع علماً أزرقاً على تلة جرداء، غمرته غبطة عجيبة وكأنه حقق اكتشافاً لأرض لم تلمسها قدم إنسان من قبل، لم يكن يعلم بأن «اكتشافه» هذا سيثير عاصفة إعلامية حول العالم وفي غضون ساعات، إنه الرجل الثري والأب الحنون لطفلة محظوظة للغاية، فقد قام والدها بشراء بلد كامل لأميرته الصغيرة وتوجها بهذه الصورة على العرش!
بدأت حمى الانتخابات الرئاسية تجتاح كل بيت أمريكي هذه الأيام، إعلانات وبرامج انتخابية تدعو الجميع للمشاركة في هذا الحدث «الديمقراطي» المميز، تتناقل وكالات الأنباء آخر الأنباء عن نشاطات المرشحين وجهدهم الحثيث، لكسب أصوات العامة من الناس، لكن انتخابات هذه السنة حملت بعض القصص الأخرى، التي تبدو وكأنها تعود لتطل برأسها كل حين، لا.. إنها لن تتعلق أبداً بمعدلات البطالة، أو سوء الوضع الصحي، أو حتى تفاصيل العنف، ضد المجتمعات الملونة المهمشة، إنها تتحدث عن الجزء الأكثر أهمية في أي عملية انتخابية: المال.
«ما الذي تفعله هنا؟، أريدك أن تخرج أنت وقناة «فوكس» من بالتيمور، أنت لست هنا للتعبير عن حزننا على وفاة ولدنا «فريدي غراي»، أنت لست هنا للتعبير عن الفقر الذي يسكن شوارعنا، أنت لست هنا للحديث عن المشردين والمحتاجين في مجتمعنا، أنت هنا للحديث عن «الشغب والفوضى» التي يحدثها المتظاهرون اليوم، أنت هنا للحديث عن قصتك وحدك..فقط..»!
دخلت المعلمة غرفة الصف، وضعت أوراقها الكثيرة على الطاولة واقتربت إلى الوسط تريد إخبار الجميع بما ستقوم به صفوف المدرسة جميعها اليوم: «أيها التلاميذ..» رفعت صوتها قليلاً فأنصت الجميع، «كما تعرفون تحتفل المدرسة بأسبوع الثقافات الأجنبية منذ يومين، جميع مدارس نيويورك تحتفل بذلك، ولكم مني اليوم واجباً مدرسياً ممتعاً للغاية».
بدا وكأنه سمكة عاجزة تحاول الإفلات من شباك الصيّاد، وضع أكياسه على الأرض، ورسم ابتسامة متكلفة على وجهه المنهك واستمع بتأن إلى سؤال المذيعة التي تحاول تلقف ما أمكن من «الناس العاديين»، أدار رأسه قليلاً فتفحص الكاميرا المثبتة على أحد الأرصفة الدمشقية المزدحمة وحدّق فيها بخجل ثم أطرق رأسه، «ما رأيك بقرار رفع أسعار المكالمات الخليوية؟!»
يبدو الحديث عن الموسم الرمضاني على شاشاتنا مبكراً بعض الشيء، فالكثير من تلك الأعمال ما زالت على الورق، وهناك العديد من الصعوبات التي تفرضها ظروف الأزمة الحالية على طاقم أي عمل منهم، لكن أحداً لا يستطيع تجاهل المسار الجديد الذي بدأت تنحو إليه تلك الأعمال، وبدأ الكثير منها يستفيد من انفتاح الطاقم الفني السوري على منابر الصحافة والإعلام المرئي والمسموع، محلياً وعربياً في إطار خطط تسويقية تعتمد على «تسريبات» قد ترفع مستوى الاهتمام، وتجعل العمل محور حديث المتابعين، لكنها في الوقت نفسه، تفضح ارتهان الكثير من تلك الأعمال لمعايير أساءت إلى صورتها الفنية، وتحول أغلبها إلى نماذج مشوهة عن «الواقع» الذي يود الكثيرون الحديث عنه.
علا صوت المطارق وهي تهشم الأحجار، رفع يده بقوة وضرب بها الوجه الأصم فعاد الصدى يردد صوت تلك الضربة مرات ومرات، ارتفعت صيحات التهليل والتكبير بعد أن أمسى التمثال قطعاً مفتتة على الأرض، ولم تمض أكثر من دقائق حتى أصبحت تلك القطع المشهد الأول على جميع شاشات العالم، توجه الحقد والانتقام هذه المرة نحو الماضي لا الحاضر، وتساءل البعض عن المغزى من وراء هذه «الحملة» التي لم تهداً، هناك «جبهات قتال» أحوج إلى تلك الجهود، فما بالهم يحطمون الحجارة..؟!