«ريموت كونترول»

«ريموت كونترول»

لمعت أضواء الاستديو الجديد، وبدأت الموسيقا المضطربة بالتصاعد في الخلفية معلنة بداية نشرة الأخبار، كان العد التنازلي قد انتهى للتو، وظهرت المذيعة المبتسمة أمام الكاميرا للمرة الأولى معلنة للجميع بدء اللحظات البكر من إرسال هذه القناة الجديدة، ألقت المذيعة «بيانها» المقتضب، ووعدت بأن هذه القناة ستكون «مميزة» عن البقية، لأنها «تمثلك» وتعلم بأنك تريد أن تعرف «الحقيقة»، البيان ذاته الذي طالع جموع المشاهدين مرات عديدة، وسيلاحقهم وهم يقلبون بين القنوات واحدة تلو الاخرى!

شهد الشهر الماضي لوحده اطلاق أكثر من أربع قنوات إخبارية «عربية» ، وكانت بداية العام الجديد فرصة مناسبة للإعلان عن ظهورها للناس بأشكال وألوان مختلفة، والجميع يتحدث عن «رؤية إخبارية عربية جديدة» تسعى لملء الفضاء الذي خلفته الخيارات الاعتيادية من القنوات التي تعنى عادة بهذا الجانب، كان واضحاً تراجع سيطرة بعضها لعدة أسباب مقابل زيادة سطوة الآخر، كما ارتبط ظهور بعضها بالتغيرات السياسية التي أفرزتها أحداث الشهور القليلة الماضية على الساحة الإقليمية والدولية، لكن المشاهد الفطن لم يستطع تجاهل حقيقة أن أمراً لم يتغير في الصميم، وعلم بأن عملية «إعادة التلوين» هذه قد بدأت من جديد.

تكرار.. واستقطاب

شهدت الأيام الأخيرة إطلاق قناتين تحملان تقريباً الاسم نفسه، فتابع المشاهدون إطلاق قناة «العربي» الممولة قطرياً بالتزامن مع إطلاق قناة «العرب» التابعة لمجموعة الوليد بن طلال السعودية، في تكرار واضح لمشهد شهده الفضاء التلفزيوني العربي لأكثر من عقد من الزمن، وتكرار آخر في الفخامة العالية في التقنيات والعروض الفنية للقناة، غرف البث المباشر وأقسام الترويج والإبداع والتصميم بدت متشابهة إلى حد كبير، كما حملت القناتان في ثنايا الاسم نية لاستقطاب المشاهد العربي أينما كان، وبدا وكان للجيل الشاب النصيب الأكبر من برامجهما، مع نية واضحة لتغطية كافة أحداث الحراك الشعبي الشبابي في مختلف أرجاء العالم العربي، لكن بالطبع مع صبغة خاصة تعيد قولبة ما يحدث في الشارع لتلائم الخط العام للقناة الجديدة والذي بدت ملامحه ظاهرة بشكل فاقع خلال الساعات الأولى من البث المباشر لكل منهما.

في النهاية تتبع القناتان لخطين سياسيين متناقضين حول العديد من القضايا، كما لم تخل التقارير الأولى لهما عن العبارات المبطنة والمصطلحات «المفخخة» ذاتها، فحصدت أخبار تنظيم داعش الإرهابي العناوين مع استخدام متكرر لمصطلح «تنظيم الدولة» التفخيمي، وأطلقت العنان لمديح الحكومات التي «احتضنت» اللاجئين السوريين المعذبين، دون أن تهمل الإشارة إلى «المشاكل» التي جلبها أولئك اللاجئون معهم إلى هناك، فتظهر في ثناياها العنصرية المعتادة وتحمل في بعض الأحيان صبغة طائفية بغيضة، بالإضافة إلى استخدام الخبر ذاته في سياق الحرب الإعلامية المتبادلة بين الأمزجة السياسة المختلفة في الخليج العربي، فتخصص قناة «العرب» السعودية تقريرها الأول عن الحراك الشعبي في البحرين ليتم منع بثها هناك على الفور من قبل الحكومة البحرينية «لأسباب تتعلق بعدم التزام القائمين على المحطة بالأعراف السائدة في الدول الخليجية»، وتركز قناة «العربي» على طريقة تعامل الشرطة المصرية مع المتظاهرين من جماعة الإخوان، في اجتزاء كيدي للخبر وإسقاط واضح لقيمته عن طريق استغلاله بهذا الشكل.

وفي مكان آخر، يعلن تنظيم «داعش» عن نيته إطلاق أول قناة تلفزيونية خاصة به، وتأتي هذه الأخبار بعد أن سيطرت الماكينة الإعلامية للتنظيم على مواقع التواصل الاجتماعي العالمية لتصبح «إذاعة الدولة الإسلامية» المنشودة آخر إبداعاته على هذا الصعيد، بعد أن أطلق داعش منذ بعض الوقت إذاعة «البيان» من الأراضي العراقية، ويبثّ الفيديو الترويجي للقناة على مدار الساعة، عبر صفحة على الأنترنت، لمدة 24 ساعة يومياً، سيتم تخصيصها كاملة لبث الدعاية فقط. وسوف تشمل باقة البرامج التي تبثّها القناة سلسلة فيديوهات جديدة يقدمها الأسير البريطاني لدى «داعش» جون كانتلي، ونشرات أخبار يومية، وبرنامجاً بعنوان «حان الوقت للتجنيد» الذي سيناقش كيفية تجنيد «الجهاديين» الجدد، ويبث كل أربعاء الساعة الخامسة مساءً «بتوقيت الدولة الإسلامية!!»، وغيرها من البرامج الذي تظهر نية «داعش» ومحركيه من الحكومات الأجنبية ترسيخ الثقافة المظلمة التي يود نشرها عن طريق شاشات التلفزة التقليدية، بعد أن تم تخصيص الملايين من الدولارات لرفع منسوب الضخ الإعلامي «الداعشي» والحرص على إبقاء المنطقة تحت رحمة غيوم الحقد الطائفي السوداء.

بلا  جدوى..!

لكن ماذا عن سورية؟ حسناً ..يبدو من المبكر الحديث عن حصتها من عناوين القنوات الجديدة تلك، لكن المؤشرات الأولى لا تحمل الكثير من التفاؤل، تقارير يومية لتلميع صورة «أمراء الحروب» من الجماعات المسلحة والانقسام بين تسويق مفاهيم «المعارضة المعتدلة» كحل مشوه في مواجهة التطرف وبين المغالاة في دعم التطرف ذاته تحت تسلسل تقليدي من الحجج، لا أحد يريد الحديث عن حل سياسي فعال للخروج من الأزمة ولا تغطية حقيقية لمثل تلك الجهود، الأمر الذي بدا واضحاً عند انتهاء الجلسة الأولى من المشاورات في موسكو، حيث عانى المشاهد السوري من صعوبة الحصول على خبر دقيق عن تفاصيل ما جرى هناك، وضاع الخبر بين محاولات تلويث النتائج وتبني المقتطفات «المسموحة» منه دون سواها بالإضافة إلى تكريس ندوات مطولة تخصصت في التقليل من أهمية مفاعيله، والتي ظهر الكثير منها ،وللأسف ،على شاشات إعلامنا «الرسمي» و«شبه الرسمي» قبل غيره، فاتسعت الهوة بين المشاهد والتلفاز وازدادت حيرته فيبدأ يائساً بتقليب المزيد من القنوات، لكن، دون أي جدوى.