الافتتاحية: وذاب ثلج التشاركية
بعد الموانئ، قررت الحكومة القيام بتخصيص جزئي للمطارات تحت اسم الاستثمار، ومؤخراً جاء دور الكهرباء حيث سُمح للقطاع الخاص بالاستثمار الإنتاجي فيها تحت شعار التشاركية الذي بقي مبهماً حول من يشارك من؟
وهكذا.. تقوم القرارات الحكومية بإدخال القطاع الخاص المحلي والخارجي إلى مجال البنية التحتية، التي بقيت لعقود طويلة حكراً على الدولة.. وكان حتى الأمس غير مفهوم بدقة ما المقصود بصيغة التشاركية.. والآن أصبح واضحاً أن المقصود هو مشاركة القطاع الخاص للدولة.. وليس العكس..
ولكن يبقى غير مفهوم بتاتاً لماذا تقوم الدولة بالتراجع عن دورها في قطاعات استراتيجية غير خاسرة، خاصة أن حجة المشاركة كانت تساق لتبرير إدخال القطاع الخاص في بعض الصناعات التحويلية، وتخلي الدولة عنها تدريجياً، وبغض النظر عن صحة هذه الحجة أو عدم صحتها إلا أنها لا يمكن أن تساق لتبرير الاتجاه نفسه تجاه قطاعات رابحة.. مما يقودنا إلى استنتاج بسيط هو أن السبب الحقيقي ليس الربح أو الخسارة.. لأن كل القطاعات كما تبين يجري التعامل معها بالطريقة نفسها..
لذلك تطرح حجة جديدة لتطوير التشاركية، وهي المصطلح الحركي للخصخصة، في القطاعات الرابحة، وهي أن الدولة لا قبل لها بتوظيف استثمارات كبيرة لتحسين البنية التحتية..
لا شك أن البنى التحتية تعاني نقص تراكم في الاستثمارات التي كان يجب أن توظف فيها خلال عقود ماضية، ولكن من يتحمل مسؤولية ذلك؟ وهل يجب أن يصحح الخطأ والتقصير بخطأ أشد خطراً ووطأة؟. بل يجب أن يطرح سؤال: أليس تخفيض الاستثمار في البنية التحتية خلال العقدين الماضيين، رغم التحذيرات، كان المقصود منه في نهاية المطاف خلق تلك الحجة نفسها التي تساعد اليوم لإدخال القطاع الخاص إلى قطاعات استراتيجية تمس الأمن الوطني؟
صحيح أن كل ما يجري في الموانىء والمطارات والكهرباء يقال عنه إنه لا يستهدف ملكية الدولة، ولكن هل ملكية الدولة أمر مجرد، وليس له محتوى؟ نعم، إذا كانت الإجراءات الأخيرة لا تمس ملكية الدولة من ناحية الشكل القانوني، ولكنها تمسها من ناحية توفير أرضية لم يبنها القطاع الخاص بأمواله، ليحصل على أرباح لا حق له فيها.. مما سيساعد على تسريع تمركز الرساميل في أيد قليلة، مع كل ما يحمله ذلك من آثار سلبية على موارد الدولة ودورها اللاحق الاجتماعي والاقتصادي.. بالإضافة إلى قدرته التي ستزيد لإملاء شروطه أولاً بأول فيما يخص أنظمة التسعير والإدارة، التي سيسعى إلى تغييرها بالتدريج لمصلحته.
والسؤال الأهم هو: هل سيزيد ذلك من موارد الدولة كما يتوهّم البعض، الذي يحاول إقناع نفسه وغيره أن الدولة دون أن تتحمل أعباء التوظيف ستزيد من مواردها؟. إن المالك الحقيقي للاستثمار هو الذي سيجني الحصة الأساسية من الأرباح، وستتحول الدولة بالتدريج من مالك يتحكم بمخرجات أية عملية إنتاجية إلى مجرد جابٍ سيجري مع مرور الوقت فرض شروط وحجم الجباية عليه..
إن القطاع الخاص الذي يدخل البنية التحتية مستفيد مرتين، مرة لأنه يأتي للعمل على أرضية وبنية جاهزة لم تكلف شيئاً بغض النظر عن الثغرات التي تراكمت فيها، ومرة أخرى لأنه سيتحكم بمخرجات هذه العملية، وستتحول الدولة إلى شريك أصغر في الأرباح المحققة على حسابها وحساب المجتمع بمواطنيه، ضمن مسار قد يطال ضمن المنطق المعتمد دخوله إلى بقية القطاعات والخدمات والمجالات بما فيها المياه، وحتى الإعلام..
لو لم يكن هنالك طريق آخر لتأمين الموارد لتطوير البنية التحتية، كان يمكن اعتبار ما يجري قدراً لا راد له.. ولكن المشكلة أن الطريق الآخر موجود.. والاختيار بين طريقين لا يجوز أن يجري على أساس أيهما أسهل، بل أيهما الأصح..
إن الموارد الداخلية لتأمين تطور البنية التحتية والصناعة والزراعة وكل فروع الاقتصاد الحقيقية موجودة، ولكنها منهوبة من قوى الفساد وخاصة الكبرى، التي تجاوزت كل الخطوط الحمر, وأصبحت عائقاً أمام النمو اللاحق، وأمام منع مستوى معيشة الشعب من التراجع، لدرجة أن بعض الإحصائيات العربية تؤكد أن التدفقات الاستثمارية الخارجية القادمة إلى سورية في العام الماضي مثلاً، والتي لم تتجاوز 1.5 مليار دولار، هي أقل من نصف الأموال الخارجة منها، فهل يعقل ذلك؟ أليس الأجدى والأجدر أن تجري تعبئة كل الموارد الداخلية؟.
إن الاستيلاء على موارد الفساد كفيل بحل كل مشكلات الاقتصاد السوري، فإذا كان الناتج المحلي الإجمالي عام 2009 يعادل نحو 50 مليار دولار بالأسعار الجارية، فإن تقديرات الاقتصاديين تقول إن نحو 20 % منها يذهب كحد أدنى خارج الدورة الاقتصادية بسبب الفساد، أي نحو 10 مليار دولار... أليس الاستيلاء على هذه الموارد وإعادتها إلى الدورة الاقتصادية ليستفيد منها المجتمع والدولة كفيلاً بحل المشكلات الكبرى أمام الاقتصاد السوري؟ أليس ذلك أسهل في نهاية المطاف من تسليم مقادير اقتصادنا إلى أيدي قلة قليلة هدفها تحقيق الربح ولا شيء غير الربح؟. نعم قد يقول قائل إن هذا الأمر صعب، ولكنه الأصح والأضمن.. إن معالجة المشكلات المنتصبة أمامنا بهذا المنطق هي الضمانة للحفاظ على كرامة الوطن والمواطن.