جرى التقسيم... ثم عمّ الأمان والسلام الأرجاء كلها!

جرى التقسيم... ثم عمّ الأمان والسلام الأرجاء كلها!

ينزلق البعض، في ظل الأوضاع البائسة التي تعيشها البلاد، واستمرار سيلان دماء السوريين بأيدي بعضهم البعض، وتعمق الجراح والأحقاد، إلى التصالح التدريجي مع فكرة التقسيم؛ خاصة وأن الضغط الإعلامي باتجاهها هو ضغط هائل وعلى مدار الساعة، وتسهم فيه أطراف خارجية وداخلية، وجيوش إلكترونية ضخمة.

مجرد التفكير بموضوع تقسيم سورية، كان لوقت طويل أمراً لا يمكن أن يخطر على بال السوريين بحالٍ من الأحوال، ولكن بما أنه يخطر اليوم في بال بعضهم، فربما من المفيد التعامل مع الموضوع بعقل بارد ومنطقي، عبر اختبار هذه الفرضية نظرياً؛ أي ما الذي يمكن أن يحصل في حالة التقسيم.

أولئك الذين يروّجون لموضوعة التقسيم، يصوّرون الأمر وكأنما التقسيم هو الحل السحري للمشاكل التي نعيشها؛ فبمجرد أن يتم التقسيم، سيحل السلام وسيأمن الناس على أرواحهم وأملاكهم، وسيعيشون حياة هانئة مطمئنة!

التصور المقدم أعلاه، هو تصور خرافي وهزلي إلى الدرجة التي يصح فيها القول إن من يصدقه لا يستطيع النظر أبعد من أنفه... ولتوضيح ذلك، سنفكر في المسألة على مستويين: في الأول سنستحضر بعض الأمثلة من دول أخرى تم تقسيمها، وفي الثاني سنعالج المثال السوري بشيء من التفاصيل الملموسة.

المستوى الأول

* في مثال الهند وباكستان عام 1947، أدى التقسيم إلى مذبحة طائفية كبرى أقل التقديرات تقول إنها تجاوزت مليون إنسان، إضافة إلى عمليات تهجير قسري شملت 15 مليون شخص، يضاف إلى ذلك أن الصراع بين الدولتين ما يزال مستمراً حتى اليوم، وتكاد لا تمر سنة واحدة دون توتر واشتباكات وقتلى.

* في مثال انفصال جنوب السودان عن السودان، على أساس قومي/ديني، عام 2011، كانت النتيجة حرباً أهلية مرعبة استمرت في جنوب السودان نفسه من عام 2013 وحتى 2018 وأنتجت مئات الآلاف من القتلى، وترافق ذلك مع صراعات داخل السودان نفسه (أي السودان الشمالي ما بعد التقسيم)، ومع نزوح الملايين خارج (السودانين)، والصراعات ما تزال مستمرة حتى اللحظة بين شمال السودان وجنوبه وخاصة في دارفور، وفي غيرها من المناطق. وتعاني كلتا «الدولتين» الناتجتين عن التقسيم، من انهيار اقتصادي شامل.

* مثال تفكك يوغوسلافيا، هو مثال نموذجي على كارثية خيار التقسيم؛ فقد استمرت عملية تقسيم يوغسلافيا نحو 17 عاماً، ابتداءً من 1991 وحتى 2008، وطوال هذه الفترة كانت الحروب الأهلية (بين الدول الناشئة) مستمرة ودامية، وخلفت مئات الآلاف من القتلى، وأكثر من 4 ملايين نازح ولاجئ، وأنتجت بالمحصلة كيانات صغيرة وضعيفة وتابعة لدول خارجية، والتوترات بينها باتت أداة مثالية لشن الحروب بالوكالة، وخاصة من جانب الولايات المتحدة ضد روسيا.

وإذاً، فإن المستوى الأول، أي الدراسة الملموسة للتاريخ، يعلمنا أن المشترك في عمليات تقسيم أي دولة من الدول هو ما يلي:

أولاً: حتى وإن كانت عملية التقسيم نتيجة لحرب أهلية داخلية، فإن إعلان التقسيم لم يكن في أي حالة من الحالات بداية لعملية سلام، بل العكس تماماً، كان إعلان التقسيم هو دائماً بداية لحرب شعواء تمتد سنين طويلة في معظم الحالات، وتغرق البلاد المقسمة بالدماء والخراب.

ثانياً: كل الأجزاء الناتجة عن التقسيم تخرج أضعف اقتصادياً، وأكثر تبعية للخارج، وأقل استقلالية، وتصبح ملعباً أوسع للتدخلات الخارجية.

ثالثاً: في معظم الحالات، يتحول أمراء الحرب السابقون إلى الحكام الجدد للبلاد المقسمة، ويتحول ما كان اقتصاد حرب إجرامي، إلى الاقتصاد الرسمي للأقسام الناتجة، وبالتالي يزداد الفقر والتخلف وتزداد الجريمة وينعدم الأمان.

المستوى الثاني

في هذا المستوى، سنفكر في المثال السوري الملموس، بالاستفادة من التجارب الأخرى، ولكن عبر التركيز على الخصوصيات المتعلقة بسورية، وهنا يمكننا قول ما يلي:
أولاً: هل فكر أي شخص تغريه فكرة التقسيم بموضوع الحدود؟ حين يقبل بتقسيم سورية على أسس طائفية ودينية وقومية، هل سيحصل اتفاق ودي بين «الأقسام المفترضة» على الحدود الجديدة؟ أم أن حروباً هائلة ودامية وطويلة الأمد ستبدأ بمجرد الإعلان عن أي تقسيم؟
ثانياً: هل فكر أي شخص تغريه فكرة التقسيم بعمليات التهجير التي ستجري من أقسام في البلاد إلى أقسام أخرى (بحيث تصبح كل منطقة «صافية» قومياً أو دينياً أو طائفياً)؟ وعمليات التهجير من البلاد ككل إلى الخارج، وما سيرافق ذلك كله من مذابح واضطهاد وجرائم وإلخ؟
ثالثاً: سورية بأكملها، وموحدة أرضاً وشعباً، هي دولة صغيرة من حيث المساحة وعدد السكان والثروات، وهي تحتاج إلى إدارة رشيدة وعاقلة ووطنية وغير فاسدة حتى تتمكن من تأمين عيش كريم لأبنائها وفتح باب التطور؛ فكيف يكون الأمر في أقسام مجهرية صغيرة؟ سيكون ببساطة أنها ستتحول إلى تابعٍ ثانوي لدول محيطة بها، تتحكم في كل شيء ضمنها عبر الاقتصاد والأمن؛ أي ستكون أشبه بمعسكرات اعتقال محكومة بالنفوذ الخارجي وبأمراء الحرب والفاسدين الداخليين.
رابعاً: لأن لسورية موقعاً مهماً ومفتاحياً بالمعنى الجغرافي السياسي، فإن الأقسام المفترضة (بعد تقسيمها) ستتحول إلى ساحة صراع مستمرة بين الدول الإقليمية والدول الكبرى، وسيتحول تقسيم سورية إلى صاعق تفجير للمنطقة كلها، ولن تستقر الأمور ولن تتوقف المذابح بعشرات السنين...
بالمحصلة، فإن التفكير الهادئ والعقلاني، حتى ولو تحت ضغط سيلان الدماء، يقود العقال باتجاه واحد: سورية موحدة هي الحل الوحيد والمخرج الوحيد، والدفع باتجاه التقسيم بافتراض أنه مدخل للأمان والاستقرار هو جنون مطلق وخيانة للذات قبل أن تكون خيانة للوطن...
هذا لا يعني أنه ليس من حق السوريين أن يبنوا نظاماً سياسياً يناسبهم، وأن يغيروا النظام القائم بالاتجاه الذي يخدم مصالحهم جميعاً؛ بل يعني العكس تماماً، يعني أن على السوريين أن يتوحدوا ويجمعوا قواهم بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو القومية، ليبنوا بلادهم ويوحدوها قولاً وفعلاً، وابتداء بمؤتمر وطني عام يضمن مشاركة شاملة لكل السوريين...

معلومات إضافية

العدد رقم:
0000