التكشُّف المستمرّ للعالَم الجديد

التكشُّف المستمرّ للعالَم الجديد

لأن المرحلة الراهنة هي مرحلة نوعية في التاريخ لها عقلها الجديد وبالتالي لغتها، ولأنها أيضاً وبسببٍ من خصوصيتها التاريخية هي تعبيرٌ عن تعاظم دور الوعي والصراع عليه، فإنّ تتبّع تطوّر لسان حال القوى المختلفة ضروريّ، ويسمح بالكشف عن تمظهر الضرورة التاريخية وتسارعها.

الجديد من النظري إلى السياسي

كما كان متوقعاً، بدأت ترتسم ملامح نقاش سياسي-فكري جديد ليس فقط في إطار نقاش «نخبوي» ضيّق، لدى هذا أو ذاك من الكُتّاب أو الصحافيين أو الباحثين، بل لدى أحزاب سياسية ودول فاعلة لم تكن عادةً في هذا الموقع من التجريد النظري والسياسي، وكلّه نتاجُ فرض الضرورة التاريخية نفسها وتسارع العملية التاريخية. والمقصود بالنقاش الجديد هو ذاك الذي يعكس ليس فقط خطاباً جديداً في النظر إلى القضايا بما يتجاوز الخطاب القديم، بل في مضمون هذا الخطاب الجديد أيضاً. وهذا المضمون هو النفاذ إلى جوهر عملية الانتقال التاريخية الحاصلة من عالم الهيمنة الإمبريالية. هذا الجوهر الذي يطال كل تنظيم الحياة على الكوكب من العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وصولاً إلى النظرة إلى العالَم والتفكير وأدواته ومنطقه. ومع أنّ هذا التطوُّر في الموقف لا يزال يناقِشُ «تجاوز» الإمبريالية، ولم يصل بشكل مباشر بعد إلى نقاش تجاوز الرأسمالية وطبيعة نظام الإنتاج الجديد وكل مفرزاته الاجتماعية والسياسية والثقافية، إلخ، إلّا أنّ ما يهمّنا، وعلى الرغم من كلّ التّشويش الحاصل عالمياً، هو أنّ هذا النقاش صار الثابت في الخطاب العام السياسي. وانتقال هذا النقاش من المجال النظري (والممارسة السياسية) لبعض الشخصيات والأحزاب التي عادةً ما كانت تحجز لها مهمّة التفكير النظري والمجرَّد (بسبب من مرجعيّتها الفلسفية كالأحزاب الماركسية عادة)، إلى المجال السياسي العام للدول والعلاقات العالمية، وإلى أحزاب وقوى كانت حتى الأمس القريب تنتمي إلى العالم القديم، أيْ إلى التصور السابق عن العالم، وإنْ كان في موقعها فيه «صراعيّة».
فكما اتضح سابقاً، فإنّه مع كلّ وصولٍ جديد للبنى القديمة إلى مرحلة أعمق من صدامها بحدودها التاريخية، كلّما تمظهر هذا الانتقال في التفكير والممارسة بشكل أوضح. ولهذا مثلاً، فإنّ المجالات الاقتصادية-السياسية الأكثر سخونةً ووزناً في البنية العالمية حصل فيها هذا الانتقال بشكل أسبق من غيرها متى ما وجدت القوى الفاعلة المناسبة للتعامل مع الحدود التاريخية وانفجار التناقضات.

ضد عقل الهزيمة، وتطوير الهجوم

ولهذا، ونتيجة للصراع في منطقتنا الذي له وزنه العالمي الكبير، فإنّ انتقالاً في خطاب وممارسة القوى السياسية والدول بدأ بالتمظهر بعد أكثر من عام على الحرب الصريحة التي امتدّت (ولا زالت تمتد) رقعتها من المحيط الهندي وحتى البحر المتوسط. وضد خطاب الهزيمة الذي راج مع الهدوء النسبي الذي طال الجبهات المختلفة، إلّا أنه كان واضحاً أن توازناً في القوى وصل إلى سقف تاريخي محدَّد وجب معه تطوير أدوات الصراع لدى القوى التي تحاول النفاذ إلى العالَم الجديد لأنّ موت القديم يعني موتها وفناءها. وكما أشارت مواد سابقة حتى قبل إعلان «وقف النار» (غير الكامل، والمؤقت) بأنّ المهمة هي تطوير الهجوم على كل الجبهات. وأحد أهم مستويات هذا التطوير هو تطوير النظرة إلى الصراع، وبشكل خاص تجاوز التناقضات، أولاً الداخلية في بنى المنطقة (وعالمياً)، وثانياً، تجاوز التناقضات البينيّة فيما بين تلك البنى.
ولهذا، بدل الوقوع في نفس «الهزيمة» الذي روَّج له حتى أصدق الأقلام، فإن الفعل الإبداعي كان التقاط الجوهر الثوري للأزمة، الذي هو بالتحديد انكشاف أزمة تسقيف أدوات الصراع السابقة حيث يرتفع فيها وزن العامل العسكري بشكلٍ خاص. وما العمليات السياسية والأحداث الأخيرة الجارية في منطقتنا، وبشكل خاص المسألة الكردية-التركية وعودة مسار النقاش بين دول المنطقة مدعومة بالدور الروسي-الصيني خاصة، وبعض العناد من دول عربية ضدَّ الضغط الأمريكي، كالموقف المصري والأردني، مدعومة بالمشهد الفلسطيني المتألِّق خلال عمليات التسلُّم والتسليم، واحتدام الصراع في الضفّة وعمليات المقاومة المستمرّة ضدّ الكيان في قلب مناطقه، كعملية تفخيخ الحافلات والدهس الأخيرتين، وبالتالي احتدام التناقض داخل الكيان نفسه، ما كل ذلك إلّا دليل على هذا الانتقال وإنْ كان سيأخذ وقته، ناهيك عن تلك العمليات العالمية وبشكلٍ خاص فيما يتعلّق بالحدث الأوكراني والتنازل «الأمريكي» (مرغَماً) عن سلوكه «الحربجي» السابق، ودخول النادي الإمبريالي في صراع صريح بين مركزه الأمريكي وأطرافه (الأوروبي بشكلٍ خاص)، وبين المركز الإمبريالي وبين الدول الطّرفية التي عادةً ما كانت تدور في فَلَكِه.

في احتمالات التطوُّر القريب

ولأنّ المرحلة هي من حيث التسارع الشديد بحيث إنّنا نعيش في زمن مضغوط، من الجدير الإشارة أنّ ما بدأ يظهر لحد الآن ليس إلّا رأسَ جبل الجليد لما تقتضيه عملية التحول في ممارسة وخطاب الدول والقوى تجاه تناقضات البنية الإمبريالية ومعها قاعدتها الرأسمالية بشكل عام.
فالتحول لن يتوقف عند حل التناقضات السياسية التفتيتية التي هي تركة التقسيم الإمبريالي للمنطقة، وزرع الفوالق البينية الطائفية والقبلية والمناطقيّة والإثنية والعرقية، بل سيتجاوزها ليطال كل اقتصاد التبعية أوّلاً، واتّباع نموذج «نقيض» اقتصادي-سياسي-اجتماعي يكون من الجذرية بحيث يكون قادراً على حلّ المشاكل والمتطلّبات الاقتصادية والاجتماعية، وأيضاً الثقافية-العقلية التي هي أحد مستويات التفجير والانهيار الداخلي. ومهما كان اسم هذا النموذج فلا يمكن له أن يكون إلّا على النقيض من الرأسمالية، بما هي نظام محقَّق يعيش أزمة عالمية لا يمكن فصل أي دولة عن تبعاتها. فاتباع مسار تطور «مستقل» لأيّ دولة من الدول مع الحفاظ على آليّات التنافس الشديد التي تفرضها آليّات السوق هو اليوم بالحدّ الأدنى طرحٌ غير واقعي في عالَم غير مستقر وشديد الفرز والاستقطاب الاقتصادي والاجتماعي.
هذا الاحتمال في التطور، وإنْ كان سيظهر على دفعات، يحتاج إلى عدم الخوف من تقديم أسئلته وإجاباته واستباقه، وبشكل خاص على مستوى الوعي الشعبي الذي هو أحد «محتاجي» هذا التطور وعوامل قوته، وأيضاً على مستوى الحوار والنقاش السياسي بين المكونات السياسية الفاعلة، أي في وضعه على جدول الأعمال القريب.
قد يبدو للبعض أنّ نقاش مسائل الانتقال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والنفسي إلى عالم ما بعد الرأسمالية هو من ضروب الخيال اليوم، ولكن هذا المسار يحضر في تكثيف حركة عالمية تاريخية حاصلة، وحدها قادرة على الحفاظ على الحضارة البشرية. وما النقاش في أكثر الميادين قياديّةً في المجتمع اليوم وخصوصاً التكنولوجيا الحديثة، في الدول الأكثر تمكّناً من تلك التكنولوجيا، إلّا خير دليل على أنّ عالماً تسوده اللاعدالة والتطور غير المستدام وعدم المشاركة الشعبية والفردية في العمليات التاريخية الحاصلة وعدم السيطرة على الواقع – عالَم كهذا لَه مفاعيل تدميرية على الحضارة جرّاء التطبيق الواسع للتكنولوجيا الحديثة. ونقيض ذلك يعني ضمناً أنّ المطلوب مجتمعٌ يسيطر فيه البشر على واقعهم، منخرطين بالعمليات التاريخية؛ مجتمعٌ عادلٌ وذو تطور مستدام. هذا مجرد واحد من النقاشات في صالح بناء حضارة جديدة، وما زال البعض عندنا غارقين في إحداثيات العالَم القديم حتى في سعيهم لتجاوزه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1216