تحلّل البنية الفوقية للهيمنة الحديثة

تحلّل البنية الفوقية للهيمنة الحديثة

إلى جانب الإجراءات الاقتصادية «الحمائية» التي يقوم بها ترامب وما تعنيه من عمق في الأزمة الاقتصادية الداخلية في بنية العولمة بصيغتها الإمبريالية، وتعبير عن تراجع الهيمنة الغربية ضمن العولمة، فإنّ هناك معانيَ تطالُ مجمل المرحلة النيوليبرالية وكل بنيتها الفوقية، ومنها موقع الأكاديميا في منظومة الهيمنة.

بنية الهيمنة النيوليبرالية

بعد الحرب العالمية الثانية وما حملته من توازن عالمي في وجه الإمبريالية، والرأسمالية ضمناً، قامت الإمبريالية بمناورة لاستيعاب الوزن المتعاظم لقوة العمل في العالم في وجه الرأسمالية، واتخذت بشكل عام مواجهةً مع الإمبريالية في صيغة حروب وطنية تحررية، وبشكلٍ خاص وزن الدول الاشتراكية والدول ذات «الاقتصاد الوطني»، ما دفع إلى الوجود بنموذج «ناعم» للهيمنة هدفه الأساس هو تعطيل القوة الكامنة للجماهير والدول «المعادية». ومن أدوات هذا النموذج تعاظمُ الهيمنة غير المباشرة عبر رشوة تاريخية لشريحةٍ من القوى المستَغَلّة من خلال نظام حياة «ليبرالي» وتقديمات «كميّة» (رفع مستوى الحياة) ضمن الرأسمالية نفسها. هذا النموذج بدأ التراجع عنه بشكل تدريجي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي من خلال النموذج النيوليبرالي، والهجوم على كل منجزات النصف الثاني من القرن العشرين، ليس نموذج دولة الرفاه فقط، بل الهجوم على فكرة الدولة بشكل عام، ومعها مقولات الليبرالية حول الديمقراطية والمشاركة السياسية في صيغتها البورجوازية. ومن أقسى أشكال الهجوم على تلك المنجزات هو ضرب العقلانية كنتيجة وحيدة لتبرير واقع غير عقلاني، بسببٍ من فقدان المجتمع الرأسمالي كلَّ مبرّرات وجوده، وما يعنيه ذلك من خطر على العقل والشخصية الإنسانية. ومع تصاعد الأزمة في السنوات الماضية، ونتيجة لتوازن دولي ما زال لحدّ الآن يكبح مسار تفكيك الدول والمجتمعات من خلال الحروب الخارجية والأهلية، ينتقل هذا النموذج لكي يكشف عن نفسه في ضرب الدبلوماسية الدولية ومؤسساتها، وقواعد التجارة الدولية، التي تندرج في سياق التراجع عن منجزات القرن الماضي التقدّمية. وما الـ«ترامبية» إلا تتويج لهذا المسار الطويل الذي بدأ بالتشكل منذ ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضي.

تحلُّل البنية الفوقية

صارت الأزمة في نموذج الإنتاج الرأسمالي (الإنتاج السلعي والتبادل في السوق) غير مناسبة للقوى المهيمنة عالمياً، وذلك بسبب عدم عملها لصالح قوى المهيمنة، بل لصالح الدول الصاعدة، وبشكل خاص الصين، لسببٍ أساس هو انتقال القاعدة الإنتاجية الصناعية الأكبر إليها، وتراجع هيمنة الدولار. إنّ تلك الأزمة تفرض التراجع عن أشكال العلاقات السياسية الدولية، وهذا ما يعبر عنه ترامب بشكل مباشر فيما يسمّيه البعض ضربَه للدبلوماسية وممارسة السياسة الوقحة والفجّة. ولكن هذا التراجع يطال مجملَ البنية الفوقية لنظام الهيمنة الحديث، وبشكل خاص مساحاته التي تحمل طابع الهيمنة الناعمة. هذا التراجع عن مقولات البورجوازية الليبرالية كان يكشف عن نفسه في مراحل الأزمات وصعود الفاشية في التاريخ. ولكنه يتحول اليوم إلى حالة عامة عضوية ومتطرفة ضمن الإمبريالية في مرحلة أزمتها العميقة والشاملة ضمن المسار العام لضرب العقل والعقلانية. ومن المستويات التي يعبّر فيها هذا التراجع عن نفسه هو الأكاديميا ومجمَل فضاء «التفكير».

الهجوم على الأكاديميا وفضاء الوعي

قام ترامب منذ تولّيه الرئاسة مجدَّداً بوقف تمويل مؤسَّسات تعليمية وجامعات إلى حدّ إلغاء وزارة التعليم. كما قام بوقف تمويل وإيقاف برامج تمويلية داخلية ودولية، ومنها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). ومِن الإجراءات التي قام بها فرض لوائح ممارسات وإلغاء مسارات تعليم بكاملها لها علاقة بالمساواة والدراسات النقدية والتاريخية والبحث في تاريخ الولايات المتحدة الاستعماريّ (الكولونيالي) وغيرها، جرى تقليص التمويل الفيدرالي المباشر لجامعات معروفة كجامعة كولومبيا التي جرى إلغاء نحو 400 مليون دولار من المنح والعقود معها لوحدها. إضافة إلى ذلك جرى التضييق على أساتذة وطلاب ناشطين أمريكيين وأجانب، ومن ضمنهم عرب، في سياق التضامن مع القضية الفلسطينية، ومعادين للصهيونية، في سياق فرض قوائم من الممنوعات السياسية على الجامعات ومن فيها من خلال الطرد أو الترحيل.
ضمن هذا الهجوم حصلت ردود فعل واسعة من مختلف الخلفيات. فقام البعض كإيلين شريكير في موقع The Nation كتعبير عن مكارثيّة جديدة في تشبييهها للهجوم على التيار والأساتذة الشيوعيين واليساريين في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فيما اعتبرها البعض كآنّا ديمونت (جامعة Northwestern الأمريكية) في The Chronicle تماثلاً مع السياسات الفاشية لموسوليني وتضييقاً على الحريات. واعتبرها آخرون بأنها تهدّد الاستقلالية المؤسَّسية والمناهج الدراسية وحرية البحث الأكاديمي على نطاق واسع، والتدخل المؤسسي، كوضع أقسام مثل دراسات الشرق الأوسط تحت «الوصاية الأكاديمية.» هذه الإجراءات اعتبرت إضعافاً للحرية الأكاديمية عبر الرقابة الذاتية والتحكم الأيديولوجي في البحث والمناهج. ومن النتائج التي أشار إليها البعض هجرةُ العقول الأكاديمية من أمريكا، وتعريض تقديمات الصحة العامة وعلوم المناخ للخطر، وتبعات اقتصادية على المزارعين والجامعات. وهناك شبه إجماع في الإعلام الغربي المعارض لسياسات ترامب على أن هذه الهجمات تنبع من معاداة «الفكر» واستراتيجيات استبدادية لخنق المعارضة، متوافقة مع مساعي السيطرة على التعليم.

أبعد من الموقف الليبرالي لقراءة الهجوم

على الرغم من الإجماع الواسع على معارضة سياسات ترامب، يمكن استخلاص ملامح عامة منها، وبشكل خاص منطلقها «الليبرالي» في تقييم تبعاتها أو منطلقاتها. هذه المواقف تنفي أولاً أن الأكاديميا الغربية بالعام لم تكن معزولة عن سياسات الهيمنة الإمبريالية في مرحلتها الناعمة، لا شكلاً من حيث علاقة الأكاديميا بالمركز السياسي والاقتصادي (كمؤسسة بيل غيتس وغيرها) وعالمياً في السيطرة على البحث العلمي ومسارات تمويله، ولا من حيث مضمونها في الترويج لقيم الليبرالية في العلوم ومناهج البحث وفهم الظواهر والموقف من الرأسمالية بشكل عام، وخصوصاً في تعظيم الصراعات الثنائية والتقسيمية، كدراسات الهويات والأقلّيات وحرية التعبير، ومعاداة الديكتاتورية في الصيغة الليبرالية لهذه «المعاداة» ضمن «الثورات الملونة». ولهذا، فإنَّ غالبية هذه المواقف المعارضة للترامبية، حتى حين تشبّه الترامبية بالفاشية، فإنها تفعل ذلك لا تشكيكاً في الرأسمالية، بل دفاعاً عن الديمقراطية الليبرالية في صيغتها الرأسمالية. وهي تنفي بذلك أن الأكاديميا في الغرب وغالبية العالم (والتي توسعت مساحتها تحديداً في النصف الثاني من القرن الماضي، كتعاظم وزن الجامعات وعدد الطلاب مثلاً) كانت تعبيراً في جانب منها عن أدوات هيمنة ناعمة (ومتطلبات الاقتصاد في تلك الفترة). من هذا الموقع «المحافظ» فإنّ هذه المواقف تسقط من حسابها أن الترامبية هي إعلان تعطّل مجمل نموذج الهيمنة الناعمة ضمن الرأسمالية والانتقال نحو نموذج أكثر فجاجة. وهذا تعبيرٌ ليس عن مجرد أزمة «في» الديمقراطية (البورجوازية)، بل أزمة «كلّ» الديمقراطية (البورجوازية) نفسها. والاستغناء عن هذه الأدوات العلمية والأكاديمية اليوم هو إعلان بأنّ دورها في نموذج الهيمنة الجديد الفج قد انتهى (لهذا مثلاً جرى التضييق على مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية بشكل خاص)، حيث تأخذ مدوّنتا ترامب وإيلون ماسك الشخصيّتان وإطلالاتهما الإعلامية، وحضورهما المسرحي الاستعراضي معاً، مركزَ الثقل في نموذج الهيمنة الجديد وتعبير عنه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1221