الانتقال التكنولوجي يتطلب عالماً جديداً

الانتقال التكنولوجي يتطلب عالماً جديداً

مجدداً، التناقض في الرأسمالية يفرض نفسه على جميع الدول، ليس كمنظومة نهب دولية فقط، بل كنظام إنتاج وتبادل ونمط حياة داخل كل دولة. وأحد عناصر هذا التناقض هو التطور التكنولوجي الذكي، ليس بمعناه الاقتصادي فقط، بل الثقافي والعقلي أيضاً، الذي يحتل حيزاً كبيراً اليوم.

أخلاقيات الذكاء الاصطناعي

تصاعد في السنوات الماضية عنوان «أخلاقيات الذكاء الاصطناعي» في الأكاديميا، بترابط شديد مع المستوى السياسي، بدءاً من الهيئات العلمية العليا في كل دولة يحتل فيها الذكاء الاصطناعي موقعاً مهماً، وصولاً إلى الهيئات السياسية في تلك الدول، وحتى الهيئات العلمية والسياسية الدولية والإقليمية في تعاون بين الدول لصياغة «أوراق بيضاء لتنظيم قطاع الذكاء الاصطناعي المتوسع في تطبيقاته لكل ميادين المجتمع».

وهناك شبه إجماع بين هذه الهيئات على مستويات عامة يجب «تحقيقها» - كما يُزعم - بهدف «تقليل النتائج السلبية» للذكاء الاصطناعي على المجتمعات. من هذه المستويات: ضرورة حوكمة الذكاء الاصطناعي لصالح «الخير العام والتنمية المستدامة»، وجعل أدواته وخوارزمياته أكثر شفافية من حيث إمكانية شرح آلية عملها لصالح المستخدمين، بالإضافة إلى قضايا الحفاظ على السرية والخصوصية في التعامل مع بياناتهم. كما يجب تطوير سياسات ملزمة لمنتجي الذكاء الاصطناعي لضمان توظيفه في «التنمية والصحة»، والحد من آثاره العقلية والنفسية السلبية الناتجة عن الاعتماد المفرط عليه، حيث يحل محل العاملِين في مختلف القطاعات أو يغير بنية العمل من حيث التعقيد أو عدم الكفاية المعرفية، ليس فقط في كيفية استخدام الأدوات، بل أيضاً في تأثيرها على الهوية والفاعلية الفردية والارتباط بالواقع، والشعور بالعجز، وارتفاع معدلات الوحدة، وتراجع العلاقات الاجتماعية، وتأثيرها على القدرات العقلية، إلخ.

لذلك، يتم الحديث عن إشراك أكبر للمستخدمين، ليس فقط في «حلقة» وظيفة أدوات الذكاء الاصطناعي، بل وفي عملية إنتاجها وتصميمها أيضاً. وبشكل عام، يدور النقاش حول تناقض مركزي يمكن تعميم مختلف العوامل حوله: تعاظم فعالية الذكاء الاصطناعي على حساب مشاركة وفعالية القوى الاجتماعية، أي التناقض بين الإشراك/الاشتراك والتهميش، وارتفاع القطبية في المجتمع.

خرافة الإصلاحية

كل الحديث عن إصلاح آثار الذكاء الاصطناعي في إطار الرأسمالية هو استمرار للعقلية الإصلاحية التي تنكر التناقضات العضوية في النظام الرأسمالي. ويبرز هنا موقف أكثر جذرية، وإن كان أقل حضوراً مقارنة بالتيار الإصلاحي المهيمن في الأكاديميا والعلم والسياسة. هذا الموقف يرى أن الذكاء الاصطناعي، مثل غيره من موجات التكنولوجيا، يعمل لصالح آليات الاقتصاد القائم وقوى الهيمنة السياسية التي تفرض قيمها وشروطها في النهاية.

وتراجع فعالية مشاركة القوى الاجتماعية لا يحدث لأن الذكاء الاصطناعي يزداد تأثيره، بل لأنه يعمل لصالح قوى اجتماعية مهيمنة. كما يشير ويلسون وآخرون في مقال «علم النفس التطوري والذكاء الاصطناعي: تأثيره على السلوك البشري» (2020)، فإن الفعالية التي تُفقد في جانب من القطبية الاجتماعية (الجماهير) تذهب لصالح الجانب الآخر (الأقلية المهيمنة)، عبر ما يسميه «إطفاء قدرة الأفراد على اتخاذ القرارات».

هذا التحليل السياسي-الاجتماعي حاضر في العديد من الدراسات، وإن كان بشكل ضمني. فهناك تطور لعناوين في هذا المجال تصب مباشرة في فهم مادي تاريخي لبنية الاغتراب. من بينها أن التوظيف الواسع للذكاء الاصطناعي يضرب «المعنى»، أي قدرة الأفراد على إنتاج معنى لحياتهم، خاصة عبر تعطيل قدرتهم على «العمل» والتأثير في الواقع، كما يذكر نايلوم وروثر في مقال «معنى الحياة في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي: بعض الاتجاهات والآراء» (2023)، وكذلك سكريبتر في «حياة ذات معنى في عصر الذكاء الاصطناعي» (2022).

لذلك، يجب إعادة تعريف عملية العمل، وفقاً لهم، وتوكيل مهام جديدة للأفراد في سياق الذكاء الاصطناعي، أي فهم التعقيد الجديد في تقسيم العمل. وبعيداً عن الطابع الإصلاحي جزئياً في هذه المواد، فإن فكرة تهديد الذكاء الاصطناعي لمعنى الحياة تلقى نقاشاً واسعاً في سياق أزمة النظام الرأسمالي الحالي، خاصة أزمة نمط الحياة الاستهلاكي مع غياب بديل واضح. هذا الرأي يظهر حتى في تيار «مخادع» يتحدث عن أزمة الحياة بينما يحاول تفكيك أي بديل ذي معنى، مثل «الفيلسوف» «الإسرائيلي» الدعائي يوفال نوح هراري.

إذن، ضرب المعنى لا يحدث «بسبب الذكاء الاصطناعي»، بل بسبب الاغتراب العضوي في الرأسمالية، ودور الذكاء الاصطناعي هنا يكشف هذا الاغتراب بقوة.

مؤشرات أخرى

في المناقشات العامة حول تأثيرات الذكاء الاصطناعي النفسية، تشير بعض الدراسات إلى وجود فروق في هذه التأثيرات بناءً على «فاعلية» الأفراد، فكلما زادت مشاركتهم في العمليات الواقعية، قل التأثير السلبي للذكاء الاصطناعي عليهم. كما يختلف هذا التأثير بين المجتمعات حسب سياسة الدولة ودور الذكاء الاصطناعي فيها.

يذكر بارنز وآخرون (2024) أن البيئات «الفردانية» تشهد تأثيراً سلبياً أكبر للذكاء الاصطناعي، مع ارتفاع مخاوف الأفراد منه، مقارنة بالبيئات «الجماعية» حيث يكون الموقف أقل سلبية. هذا النقاش يتوافق مع مقال لجاكوب دراير في مجلة «نيتشر» (2025)، الذي يوضح أن الصين، على عكس الولايات المتحدة، توظف الذكاء الاصطناعي لصالح الاقتصاد الحقيقي والتنمية المشتركة عالمياً، خاصة للدول منخفضة الدخل. هذه الفروق جعلت الصينيين أقل قلقاً من الذكاء الاصطناعي مقارنة بالألمان، حيث يرون تأثيره الاجتماعي الإيجابي، كما ظهر في دراسة لبرونر وآخرين (2024).

خلاصات عامة

كما يظهر من المواد المختلفة، فإنّ تأثير الذكاء الاصطناعي لا يمكن فهمه إلا عبر التناقضات المركزية في الرأسمالية. وبسبب التوظيف الواسع للتكنولوجيا الحديثة في كل مناحي الحياة، يكشف الذكاء الاصطناعي هذه التناقضات بوضوح.

التعامل مع تداعيات التكنولوجيا الحديثة لا يمكن تخفيفه، لأنّ كل المستويات التي تعمل عبرها هي نفسها القطبية الاجتماعية التي تقصي فاعلية الغالبية، ليس فقط عملياً، بل ذهنياً أيضاً. خاصة أن الذكاء الاصطناعي يفرض إعادة تعريف الإنسان لنفسه وللعالم، بما في ذلك الجانب الفلسفي المتعلق بالوعي والذكاء والعقل، وبالتالي يمسّ قضية «إنتاج المعرفة»، التي لا يمكن حلُّها في ظلّ الرأسمالية، بل فقط في مجتمع بديل يتجاوز الاغتراب.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1223