حدود التفاؤل والتشاؤم بين عالَمَين
النقاش حول الإحباط والتشاؤم من جهة، والتفاؤل من جهة أخرى، الذي تتصاعد مركزيّتُه في المرحلة الحالية بشكل خاص، يحملُ ضمناً تصوّرَين سياسيَّين نقيضَين، لكون التشاؤم والتفاؤل يعبِّران عن الحالة الشعورية-الذهنية لنظرتَين متناقضتَين عن العالم. وفي قلب هذا النقاش هناك مسألةٌ جوهرية هي الحاجة للسياق التاريخي كأداةٍ ذهنية نحو الواقعية.
بين الفلسفي والسياسي والذهني
في نقاشاتٍ سابقة ظهرَ أنَّ الاندماجَ الشديد بين مستويات الواقع وظواهره، وخاصّةً بين الفردي والاجتماعي العام، أيْ بين الشخصيّ والسياسيّ، إلى جانب التسارع الشديد للحدث التاريخي نتيجةً لوصول التناقضات إلى حدودها تاريخية، جعلَ تمظهرات الظواهر في اندماج هي أيضاً على المستوى العقلي والذهني. حول هذا يمكن القول مجدَّداً أنّ الظواهر الخاصة والفردية والملموسة صارت اليوم تعكس بشكل أكبر معناها العام والمجرَّد. فالعلاقة بين الملموس والمجرَّد صارت أوضحَ للعين العادية واليومية. ومع هذا الاتّضاح للضمنيِّ في الظواهر الملموسة، تنوجد الحاجة لاتّضاح العلاقات فيما بينها ولتطورها. إذا، فإنّ الحدث في يومياته صار يتطلّب علاقةً حميمة وضرورية مع ملامح التفكير الفلسفي. ولكوننا ننطلق من موقع التفكير الجدلي والمادية التاريخية، فإنّ أحدَ أهم عناصر هذا الفكر المادي التاريخي هو أنَّ التفكير حول أي ظاهرة ما يتطلّب أوّلاً التفكير فيها في سياقها وصيرورتها، لا في تحويلها إلى حالة «مطلقة» جامدة، وثانياً يتطلّب ربطَها في عالمية المشهد، أيْ في وحدة الوجود الاجتماعي السياسي عالميّاً، وفي ارتفاع وزن العالمي في القضايا المحلية.
إنّ الغرق في فكرة الثبات والجمود خارج التاريخ مع كل ظاهرة جديدة، وفي عزلها عن السياق العالمي العام يشكّلان القاعدة لخسارة الجانب «الإيجابي» ممّا هو ممكنٌ في الواقع، وخسارة التفاؤل، وبالتالي الاحتفاظ بالجانب «السلبي» الممكن، والانتهاء إلى حالةٍ من التشاؤم.
ولذلك فإنّ إبراز أدوات السياق الزمني في النظر إلى أيّ مسألة راهنة كما إبراز ترابطِها معَ العالميّ ضروريان في نقاش مسألة التفاؤل والتشاؤم.
في الحدود التاريخية وسقف «الظواهر»
إنَّ حقيقةً أخرى لها علاقةٌ شديدة بمسألة التفاؤل والتشاؤم، هي حقيقة أنّ أيَّ ظاهرة في عالَم اليوم، مأخوذةً لوحدها، لا تفتحُ أفقَ الممكن لعالَمٍ جديدٍ نقيض للتفكك واللامساواة والنهب العالمي وضرب فاعلية العقل والممارسة الفردية، إلخ. فمكتوبٌ على تلك الظاهرة أنْ تصلَ إلى سقف حدودها سريعاً. ولذلك مثلاً فإنَّ أيَّ مسارٍ نحو الليبرالية اليوم يُظهِرُ ليس عقمَه فقط، بل ويعبِّر عن مستوىً من الملهاة والسخرية، نتيجة تناقضه الفاقع مع الحاجات الواقعية للتطور والحفاظ على الاستقرار والوجود. ومثالٌ آخر هو أنّ أيَّ تجربةٍ سياسية لأيّ سلطةٍ جديدة تعيد إنتاجَ الواقع السابق اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، مكتوبٌ عليها الفشل سريعاً.
إنَّ التسارعَ الشديد -وشدّة التناقضات الواصلة إلى حدودٍ تاريخية تحتاج إلى حلّ- يعكسُ عقم الممارسات لأي طرف سياسي لا زال ينكر الحاجة إلى تحولات عميقة، وإلّا فإنّ الظاهرة التي لن تَحلَّ تناقضاتِها الداخلية ستواجه دمارَها، وهذا ما يتناقض مع محاولات هذا الطرف أو ذاك للحفاظ على ذاته أو «مكاسبه».
إنّ نقاشَ التفاؤل والتشاؤم مِن هذه الزاوية الفلسفية أيضاً، يحتاج لإبراز أدوات التفكير الفلسفي الجدلي حول تطور الظواهر انطلاقاً من كونها ظواهر تحمل تناقضاً داخلياً. فالظواهر تحمل فيها تناقضها الداخلي. ومتى ما وصل التناقض الداخلي إلى حدود الحاجة إلى حلّه ولم تجرِ عمليّةُ الانتقال إلى مستوى جديد انطلاقاً من الحلّ الإيجابي له، فإنّ الظاهرة مهدَّدةٌ بالدمار كتعبيرٍ عن الحلّ السلبي للتناقض؛ عبر القضاء على طرفَي التناقض. هذه اللّغة بالنظر إلى الحدث السياسي اليوم، وبشكل خاص دور الدول والقوى وممارستها، ضرورية في نقاش مسألة أيّ الاحتمالات ممكنةٌ ومرجَّحةٌ، وبالتالي السماح لمدى واقعي من التفاؤل المبنيّ على أنّ الضرورة الداخلية للواقع تفرضُ مساراً ما يجبُ الاستثمار فيه.
عن الحدث السوري مجدَّداً
إنّ التحول في السلطة السياسية في سوريا، ومنذ اليوم الأول لرحيل رأس السلطة السابقة، كان يحمل سقفَه الذي لم يكن ليدومَ طويلاً دون تحقيق استحقاقات الانتقال السياسي، ومعه الواقع الاقتصادي والاجتماعي. ولهذا، فإنَّ نتائجَ عدمِ تحقيقِ التحولات ستتحوَّلُ إلى عدوٍّ لمن يحاول استغلال الهوامش المؤقَّتة لصالِحه، وضمناً القوى الإقليمية التي تستثمر في هذه الهوامش، وستجلب اللا استقرار الذي سيرتدُّ ضدَّ تلك القوى والدول نفسها، ما عدا الكيان الصهيوني، إلّا إذا ما جرت التضحية بالكيان نفسه لمصلحة الفوضى.
وما الحدث الداخلي التركي في الأيام الماضية، أيْ ارتفاع حرارة الصراع الدخلي، إلا دليلٌ على الهوامش الضيقة للمناورة أمام الدول ومن خلفها المصالح الاقتصادية والاجتماعية لمجموعات واسعة من الشعب لها المصلحة في الاستقرار والتطور والسلام. فليست الهوامش ضيقة أمام السلطة الجديدة في سوريا فحسب، بل في كلّ دولة حول العالم. فمهام الانتقال مفروضةٌ على كل دولة من الدول وإنْ بوتائر مختلفة. واتضاح هذه الهوامش ليس إلّا مسألةَ وقتٍ مرتبطة بمدى حضور العالَم القديم المأزوم وعلاقاته، في أيٍّ من المجتمعات واقتصادها وجهازها السياسي. فاتّضاح الحدود والسقوف له علاقة بمدى التعفُّن وشدّة التناقض في المجتمع المعني. وبالتالي، فإنّ اتضاحَ الهوامش والسقوف سيزداد في الدول الأقل تعفّناً في حال لم يحصل الانتقال في الدول الأكثر تعفّناً، كون ذلك سيرفع من نسبة التناقض في الدول الأقلّ تعفّناً. هذا هو جَدَل الترابط العالَمي الشديد اليوم. فلا روسيا ولا الصين -كونهما التعبير الأوضح عن بنىً أكثر استقراراً من غيرها- بقادرتين على المناورة والاحتفاظ بالاستقرار النسبي الحالي في ظلِّ انهيارٍ متتابعٍ للدول.
عودةٌ للتفاؤل والتشاؤم
إنّ اتضاحَ الهوامش والسقوف أمام الدول، ومع أنه يحصل بالدماء والدموع، إلّا أنّه حاملٌ لاحتمالات الجديد الممكن الذي يفرض ممارسة سياسية إقليمية ودولية جديدة تسمح، في حالتنا، بتجاوز الوضع السوري الداخلي. وما العدوانُ الصهيوني الذي تزداد وتيرتُه يومياً إلّا تعبيرٌ عن ضيق الهوامش أمام الكيان ومن خلفه خطّ التدمير الغربي، بعد تجربة «الاقتتال الداخلي» التي جرت محاولة ضبطه إلى هذا الحد أو ذاك.
إنّ حسمَ التفكير لصالح التشاؤم والتفاؤل، على الرغم من مأساوية المشهد اليومي، يتطلّب هذه الإحاطة للسياق التاريخي ولحاجاتِ التطور التي يُعَمِّي عنها المشهدُ الإعلامي بشكلٍ خاص، ولكنها أكثر من واضحة في المشهد الدولي والإقليمي الذي يجب أن يأتي الردُّ منه قريباً في خلق أدوات إبداعية لصالح مواجهة مخاطر التدمير والفوضى نحو عالَمٍ جديدٍ ممكن، بل ضروري.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1219