قصة «أمل»..

لفحت المياه المالحة وجهه الشاحب، رفع رأسه نحو الأعلى ثم أغمض عينيه بتثاقل دون أن يستطيع الحراك، بدا وكأن يديه قد أصبحت قطعة أخرى من قطع تلك الخشبة السوداء التي يتشبث بها، بدأت ذكريات الساعات الماضية تتوالى تباعاً وهو يحاول تحريك قدميه في المياه دون جدوى، لفظ أنفاساً محترقة جرحت حلقه المتيبس، عاود المحاولة والتفت يبحث عن أي شيء آخر تحمله تلك المساحة الزرقاء الشاسعة، لا شيء سوى المزيد والمزيد من المياه..

«كيف وصلت إلى هنا؟» سأل نفسه وهو ينصت إلى صوت الأمواج الصاخب، أحكم قبضته ودفع نفسه لينهض فوق «زورقه»، لكن الخشبة المهترئة أصدرت صوتاً مشؤوماً أنذر الرجل ودفعه إلى الثبات، عاود البحث من جديد: «لا أرى أي أحد.. هل ابتلعهم البحر جميعاً؟». تذكر جيداً الساعات الأولى من انطلاق مركبهم الصغير من شاطئ تونس الرملي، لم يكن هناك ما يكفي من سترات النجاة، ولم تضمن له الآلاف الكثيرة التي دفعها واحدة منها، سرعان ما وزعها الطاقم على سكان «الطابق العلوي» من المركب، مجموعة صغيرة من الركاب جلست فوق سطح قمرة القيادة، «فيرست كلاس» كما همس أحد الركاب ضاحكاً و«مقرفصاً» فوق بدن السفينة الأمامي، كان شاباً أسمر في العشرين من عمره، «أحسن من غيرنا..» غمزه الشاب وأشار بإصبعه إلى الأسفل، ابتسم الاثنان بمرارة، فقد حشر أكثر من خمسين رجلاً وامرأة في غرفة المحركات السفلية، لا بد أنهم سيستلقون طوال الرحلة على جانبهم وقد تشبعت أجسادهم برائحة الزيت والشحوم، «لا أظن بأن أحداً منهم بقي على قيد الحياة»، همس الرجل لنفسه ثم عاود البحث من حوله مرة أخرى.
«لا فيرست كلاس ولا غيرو» رفع الرجل صوته وكأنه يريد لأي كان أن يسمعه، آلمته حنجرته المتورمة فسكت، لكنه سرعان ما انتفض باحثاً عن حقيبته الصغيرة التي كانت مربوطة على خصره، «هناك زجاجة ماء بلاستيكية صغيرة في الداخل»، سرعان ما خاب أمله حينما لم يجد شيئاً، «ضاعت الحقيبة في البحر»، تذكر وقاحة طاقم السفينة وهم يرمون جميع الحقائب في البحر، كان الركاب يتدافعون أمام السفينة الراسية أمام الشاطئ فيتلقفهم أحد العمال المصريين فيدفعهم إلى الداخل بعد أي يرمي جميع ما يحملون في البحر، صعد «المسافرون» بثيابهم فقط بعد أن جردهم «القبطان» من أجهزتهم الخلوية وأمتعتهم الخاصة، دفع الطاقم عائلة كاملة نحو زاوية السفينة لتجلس بجانبه بعد أن جردت من كل شيء، أخفت الأم دموعها بعد أن نهرها الأب لتحث الخطا نحو المكان المخصص لهم، جذبت الأم طفلتها الصغيرة بعد أن تعثرت بأرجل أحد الركاب، نهض الرجل وساعد الأم وجلسوا جميعاً في الزاوية، أخرج الرجل بحذر قطعة من البسكويت وناولها للصغيرة، هزت الطفلة رأسها بخجل فتمايلت ضفائرها الشقراء، ابتسمت الأم ومسحت دموعها وهمست لابنتها: «أمل.. قولي يسلمو لعمو».
«أين أمل الآن..؟» عاود الرجل النظر دون أن يلمح أي جديد، لقد بدأت الشمس تصيبه بالدوار الشديد، لم يعد قادراً على تحمل أصوات الأمواج الصاخبة، بدأ يشعر بالنعاس وبدأت جفونه تتثاقل، «إن نمت غرقت..» زجر نفسه وفتح عينيه بالقوة، «لن تكون هذه المرة الثانية»، نفض رأسه من رواسب البحر المالح فعادت به الذكريات إلى أيام صيف بعيدة، بدأ يتذكر رحلته المدرسية في الصف الخامس إلى «مسبح» المدينة، اجتمع الصبية حوله ودفعوا برأسه تحت الماء مازحين، بدأت المياه تملأ رئتيه إلى أن فقد الوعي، يذكر جيداً كيف استيقظ ممدداً على منشفة وهو يسمع استغاثات الصبية بعد أن جرتهم المعلمة من شعورهم إلى الخارج، فكر: «هنا.. لا توجد فرصة ثانية..»، حاول رفع رأسه فلم يقدر.
أغمض عينيه وانصت إلى صوت البحر، بدأ الصوت بالابتعاد وأخذت يديه تنزلق قليلاً، فتح عيناً واحدة ونظر إلى الأفق، «ما هذا؟!»، لمح شيئاً صغيراً يطفو على سطح الماء، ربما يكون أحد الناجين، جمع ما استطاع من قوة في قدميه وأخذ يجدف ببطء نحوه، بدأت ملامح الجسم الطافي تتوضح مع اقترابه شيئا فشيئاً، أنه رأس صغير بشعر ذهبي مجدول، يبدو وكأنه يحاول جاهداً البقاء على السطح، «ياويلي.. إنها أمل..!» صرخ الرجل بصوت مبحوح واندفع يجدف بقوة أكبر إلى أن مد يده وجذبها من المياه إلى صدره ورفعها إلى أعلى الخشبة، لم يعد يقوى على أن يفتح عينيه بعد أن خارت جميع قواه، انهكه التجديف ففقد وعيه على الفور وهو يضغط بقوة على يدها.
لم يدر كم مر عليه من الوقت، أيقظته موجة كبيرة ممزوجة بالرمال، فتح عينيه ورفع رأسه مدهوشاً، أحس بالدماء تعود إلى قدميه المخدرتين، استند على اليابسة وهو ما زال لا يصدق ما يراه بعينيه، لقد قذفته الأمواج إلى الشاطئ في النهاية، انهمرت دموعه فجأة فقهقه ضاحكاً: «أنقذتني المعلمة من جديد..»، حاول النهوض فلم يقدر لكنه سرعان ما تذكر الساعات الأخيرة فانتفض صارخاً، «أين أمل؟!»، زحف على الشاطئ وهو يبحث بين الأكوام المحطمة والشظايا المتناثرة، لكنه لم يجد سوى دمية قماشية بجدائل صفراء ذهبية وقد مزقت الأمواج أطرافها، صعق الرجل وكأنه يرى جسداً ممزقاً رماه البحر بقسوة، خانته الكلمات وعاود البكاء، لكنه ضم الدمية إلى صدره بقوة وتابع زحفه بيد واحدة على الرمال.

آخر تعديل على الأحد, 28 أيلول/سبتمبر 2014 11:27