«دبوس الورق».. أمريكا والنازية
رفع الرجل رأسه المدمى ونظر إلى الشاب الواقف أمامه، فضحته ملامح وجهه المرتعد كأحد المتخرجين حديثاُ من المدرسة الحربية، أعاد تفحصه من رأسه إلى أخمص قدميه ورمى بين يديه رشاشاً خفيفاً ثم قال: «في بداية الحرب.. أمضيت عشر سنين في قتال النازيين في أفريقيا.. واليوم.. أقاتل النازيين على أرضهم.. في ألمانيا.. وبرفقتي هذه المجموعة الصغيرة من الرجال الأوفياء .. هذه الدبابة التي تراها أمامك هي موطنك الجديد..» أنهى كلامه وخطا بعيداً تاركاً الشاب يصارع ارتعاشه من أصوات الانفجارات المتلاحقة من حوله.
كان هذا الرقيب «كولير» من سلاح الدبابات الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية، الشخصية التي يؤديها الممثل الأمريكي الشهير «براد بيت» في فيلمه الجديد «Fury»، وهو الفيلم الأمريكي الأحدث الذي يتناول المشاركة الأمريكية في تلك الحرب وسعيها لـ«نشر السلام» و«تخليص أوروبا والعالم» من «ديكتاتورية هتلر الفظيعة»، ليضاف إلى سلسلة طويلة من الإنتاجات الهوليودية التي تتناول القصة ذاتها بجرعات مختلفة من التلميع والتنميق في حرب شهدت في الواقع مشاركة دموية وجيزة للجيش الأمريكي لا ترقى لأن تظهر في أي كتاب للتاريخ.
«كيف أصبحت أمريكا ملاذاً آمناً لرجال هتلر!»
وبالحديث عن كتب التاريخ، هناك كتاب جديد يستحق الوقوف عنده، وبالأخص بعد أن تم نشره في الأسبوع ذاته الذي قدمت فيه هذه «الملحمة السينمائية» للجمهور، يتحدث العنوان عن نفسه: «جيراننا النازيون: كيف أصبحت أمريكا ملاذاً آمناً لرجال هتلر!» للكاتب الأمريكي «إيريك ليتشبلو» والذي يتناول بالوثائق العلاقة السرية التي رعتها الحكومة الأمريكية مع مجرمي الحرب النازيين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحدث بشيء من التفصيل عن الدعم غير المحدود لكبار ضباط الاستخبارات النازية في إطار تشكيل مجموعة أمنية جديدة تستهف قوات الاتحاد السوفياتي في تلك الفترة كان مركزها ألمانيا المقسمة حديثاً وفي قسمها الغربي، عن طريق استعراض آلاف الوثائق التي تم تجميعها وتنقيحها طوال العقد الأخير ومن مصادر متعددة.
تحدث الكتاب عن الجنرال النازي «رينارد جيلهين»، الذي تمت إعادة تعبئته في صفوف استخبارات ألمانيا الغربية برعاية وكالة المخابرات الأمريكية فور انتهاء الحرب، حيث سارع الجنرال المرموق إلى تعبئة أكثر من مائة ضابط مسرح من الجيش والاستخبارات النازية فخلقت نواة «استخبارات ألمانيا الغربية» أو ما عرف لاحقاً بـ«BND» ، المجموعة التي تمتعت بحصانة مطلقة ضمنت عدم ملاحقة العديد من مجرمي الحرب النازيين بعد أن تم استثمارهم من قبل «مكتب الخدمات الاستراتيجية» الأمريكي أو ما سمي بـ «OSS» ، الجناح الأوروبي لوكالة الاستخبارات المركزية حديثة العهد آنذاك، أفرد «أيريك» في كتابه الكثير من الصفحات عارضاً الأدلة الدامغة عن قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتأمين الملاذ الآمن للكثير من تلك «الموارد البشرية» على أراضيها متناسية المسيرة الدموية لكل من أولئك الشخصيات.
سمي المشروع بـ«دبوس الورق»، وكان برنامجاً سرياً متكاملاً أطلقه الرئيس الأمريكي «هاري ترومان» في العام 1945، ومن خلاله تم استحضار العديد من الضباط والعلماء النازيين إلى الولايات المتحدة الأمريكية ذكرهم «أيريك» بالتفصيل مع «قصة» كل منهم، كالعالم النازي «فيرنار فون براون» «الصبي المعجزة في برنامج الصواريخ النازي، وأحد أقرب المقربين إلى هتلر شخصياً» كما وصفه الكتاب، والذي تم استحضاره مع عائلته وفريقه المكون من مائة عالم وفني إلى قاعدة عسكرية سرية في «تكساس»، و«إميل سولومون» المتهم بارتكاب العديد من المجازر وتجنيده في مراكز أبحاث سلاح الجو الأمريكي في أوهايو للعمل على تطوير المحركات النفاثة هناك، والدكتور «هيوبرتوس ستراكهولد»، أحد أهم العاملين في مجال العقاقير والذي تحدثت الوثائق عن ضلوعه في العديد من الاختبارات على البشر كان أفظعها التجارب التي أجراها على الأطفال بعد تعريضهم لاختلالات مدروسة في الأوكسجين بغية دراسة ردات فعلهم!
حقائق وفضائح!
تطول اللائحة في كتاب «إيريك»، ومعها تكثر الاستنتاجات، تحدث الكاتب عن التقارير الصحفية المنسوبة لكبار مسؤولي الاستخبارات الأمريكية عند سؤالهم عن الموضوع، كان أشهرها في العام 1970 بعد أن سئل رئيس وكالة الاستخبارات آنذاك «جورج بوش» الأب عن علاقة الوكالة بالنازية، حيث أجاب: «حتى وإن امتلكت المعلومات للإجابة على سؤالك، أظن بأنني لا أستطيع الإجابة..!»، بالإضافة إلى الفضيحة التي أثارتها الصحف في العام 1980 بعد تحفظ مكتب التحقيقات الفيدرالي عن تزويد وزارة العدل الأمريكية بمعلومات عن 16 من المشتبه بضلوعهم في جرائم ضد الإنسانية في ألمانيا النازية بحجة كونهم «مصادر هامة» في تحقيقات المكتب السرية، والفضيحة المشابهة في العام 1994 عندما تكتمت وكالة الاستخبارات الأمريكية من جديد على هوية أحد كبار الضباط النازيين المتهمين بجرائم حرب في «ليتوانيا» والمستقر على الأراضي الأمريكية.
أصبحت النازية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الصديق الأمثل لنخبة رجال الدولة الامريكية، وأصبحت مفتاح سياسة الإمبريالية الأمريكية في أوروبا المدمرة والمقسمة، وهنا يبدو التشابه الكبير في الوحشية والتعجرف بين النازية والآلة الحربية للإمبريالية الأمريكية واضحاً للغاية، نرى آثاره في العديد من الأمكنة حول العالم، مما يستدعي أعمالاً توثيقية أكثر عمقاً ومسؤولية تعمل على فضح ذلك الترابط التاريخي وتسلط الضوء على القواسم المشتركة بين أركانه، بدلاً من اللحاق بالأعمال «التمجيدية» في السينما والتلفزيون التي تعودت على قلب الحقائق وتحويل الجلاد إلى ضحية!