بين «الأدب» و«الأيديولوجيا»..
حسمت الأسابيع الماضية التوقعات حول جوائز نوبل السنوية الشهيرة، وتوج الفائزون في حفل كبير ارتاده صفوة المفكرين والمشاهير، لكن أصداء تلك الجائزة تتردد على الدوام لأسابيع لاحقة، فهناك دوماً من يشكك بصحة تلك الاختيارات، وفي هذه السنة بالذات، كانت التعليقات أكثر حدة، ودارت معظمها حول الكاتب الفرنسي «باتريك موديانو»، الذي فاز بجائزة نوبل للآداب هذا العام، ووصلت العناوين الصحفية إلى حد عنونت به مجلة «the Daily Beast» الأمريكية مقالها بالقول: «من هو باتريك موديانو بحق الجحيم؟!».
علينا أن نعود قليلاً إلى الوراء قبل أن نسقط في فخ التعليقات المتحاملة، فنحن لا نملك أي ضغينة تجاه ذلك الكاتب أو سواه، لكن تتويجه بالذات يطرح فكرة هامة لطالما شغلت بال المتابعين لتاريخ ذلك النوع من الجوائز، وألقت الضوء على المعايير التي تبتغيها مؤسسة «نوبل» للجوائز منذ انطلاقها في العام 1901، وبالأخص فيما يتعلق بالأدب، تلك المعايير التي أصبحت غاية، يتلقفها بعض الكتاب عن قصد ثم يعملون على التماهي معها بقصد الحصول على تكريم من اللجنة المسؤولة عن ذلك الاختيار الصعب. المعايير التي تتعمد –ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص- تفضيل الأعمال الأدبية «المثالية»، «الإنسانية» العمومية إلى حد مفرط، أي الأعمال التي تتحاشى التعاطي مع الأحداث السياسية والتحولات الاجتماعية الحقيقية فتحولها إلى خلفية رمادية لأحداث «ذاتية» أو صراعات داخلية أكثر غموضاً وتعقلاً.
عالمي.. و«مفصول عن الواقع»
يمكن الجزم بهذه الحقيقة وبكل وضوح، فقد أصبحت جائزة نوبل للآداب آلية ناجعة للتخلص من جميع الأعمال الأدبية «الجدية» و«الثورية فكرياً»، إنها تقترح فصلاً حاسماً بين العمل الأدبي ومحيطه الايديولوجي أو تأثره الاجتماعي، وتعلن بأن هذا الفصل هو الوسيلة لأخذ الأعمال الأدبية المقترحة على محمل الجد، متذرعين بضرورة تحاشي «خصوصية» النص عندما يتحدث مثلاً عن الثورات والتحركات الشعبية المقاومة في بلد ما، وكأن تلك «الثورة» أو التحركات ليست رمزاً عالمياً ينبغي الاحتذاء به، لذا تم الاحتفاء بـ«البحث عن الروح الحزينة لمدينة الكاتب الأولى» عندما تم تتويج الكاتب التركي «أورهان باموك» بالجائزة عينها في العالم 2006، وأعجبت اللجنة «بتأثير الغريب والجديد على الأحداث المحلية» في أعمال الفائز بتلك الجائزة في العام 2003، حتى أن «نجيب محفوظ»، الكاتب العربي الوحيد الحاصل على جائزة نوبل للآداب في العام 1988، قد استطاع «تشكيل رواية عربية تصلح للعالم كله» كما صرحت اللجنة آنذاك.
هذه هي المصطلحات التي تتعمد مؤسسة «نوبل» تدعيمها، على الكاتب أن يكون «عالمياً» قادراً على فصل نفسه عن الأحداث من حوله، لا أحد يهتم بالتناقضات الاجتماعية أو ما تحمله قوى التاريخ من انعطافات، لا أحد يهتم بسعي الكاتب إلى رصد رموز مجتمعه وإضاءتها أمام القراء، فالكاتب المثالي هو «المبدع» الذي يستطيع إنجاز عمل «إبداعي» لا علاقة له بكل هذا!
خرافة «حيادية الأدب»
لا يجب أن يتوقع أي منا لكثير من تلك اللجنة، فهي تتكون في النهاية من كبار المفكرين الأوروبيين التقليديين الذين يؤمنون بخرافة «حيادية الأدب» ووظيفته المحددة باستعراض الصراعات الأخلاقية والنفسية للكاتب، إنهم يفضلون بالفطرة الأعمال التي تغوص في تفاصيل الحياة بمعناها المجرد وبطريقة غامضة ومعقدة، ويتحاشون على الدوام أي إشارة إلى الأفعال «السياسية» النابعة عن أي حراك اجتماعي أو سياسي يبتغي التغيير، فإن تحدث العمل الأدبي عن «المشاكل» مهما كان نوعها، تظهر هذه المشاكل عمومية تحدث في أي مكان، ويبدأ بطل الرواية بـ«التفكّر» بها بدلاً من محاولة فعل شيء تجاهها، ويتحول هذا «التفكّر» إلى مناخ عام يسود شخصيات الرواية وحوارات الكاتب وأفكاره المكتوبة، وتتحول مفاهيم «الأسر» أو «النفي» أو «الاضطهاد» إلى «ديكور» يزين مشاهد النفس المعذبة التي نراها في كل صفحة.
إن الإيمان بهذا الفاصل الوهمي بين الأدب ووظيفته الاجتماعية هو تسليم واضح بنية المجموعات الفكرية الليبرالية تحويل المنتوج الفكري إلى هيئة مائعة سهلة الإدارة والتطويع، ولتبدأ عملية قولبة الإصدارات الفكرية على شكل كائنات معقدة، غير واضحة أو محددة المعالم، تغرق في البحث عن مكنونات الداخل بدلاً من النظر إلى الخارج بجدية، تساوم ولا تقاتل وتتحاشى التدخل في الصراعات التي تبدو على الدوام «صعبة تستعصي على التغيير»، هذه هي الحقيقة التي ينبغي التوقف عندها ملياً عند الحكم على أحقية أي من الفائزين بجوائز كل عام من قبل مؤسسة «نوبل» «المرموقة»!