بين «الفن» و«العفن»..
«هناك أسئلة لا مفر منها في أي زواج: بماذا تفكر؟ .. كيف تشعر؟ .. ما الذي فعلناه حتى وصلنا إلى هذه المرحلة؟» يفتتح الممثل الأمريكي «بين أفليك» الفيلم بهذه الجمل يلقيها بصوته الهادئ، في هذه الأثناء تثبت الكاميرا عدستها على رأس أشقر لامرأة تستريح على الوسادة لا نستطيع رؤية وجهها، لكن الخصلات الذهبية الناعمة تؤكد بأنه سيكون جميلاً، نعلم لاحقاً بأنه كذلك، إنها زوجته «أيمي» التي ستختفي بعد أيام في ظروف مريبة، يبدو زوجها «نيك» عاجزاً أمام هذا الأمر ثم تبدأ أصابع الاتهام بالإشارة إليه متهمة إياه بقتل زوجته، إنه الفيلم «Gone Girl» الجديد، أحد آخر «إبداعات» المخرج «ديفيد فينشر»، الأبرع في تحويل «العفن» إلى «فن»!
لا يحمل الاتهام هذا أي تحامل على الرجل، فهو قد اعترف بالكثير في مقابلة مصورة له لموقع «أتلانتيك»، جلس الرجل على كرسيه والتفت إلى الكاميرا مبتسماً بخبث: «أعلم بأن هناك نمطاً متكررا في أعمالي، لكني مقتنع بفكرة واحدة، أظن بأن جميع الناس منحرفون بشكل أو بآخر، وهذه الحقيقة هي الأساس في جميع الأفلام التي أخرجها».
يظهر «ديفيد» واثقاً للغاية من نفسه، فأفلامه هي الأشهر والأكثر تناقضاً في الوقت ذاته، لكن القاسم المشترك الأكبر بينها هو الحرفية العالية والأساليب الفنية الجذابة التي يضمنها هذا المخرج في أفلامه، إنه يستطيع تحويل تفاصيل الجريمة الدموية البشعة إلى تدفق مركب من الاضطرابات النفسية يستعرضها من خلال الشخصيات وعلاقتها مع الحدث الأساسي في أي فيلم من أفلامه، لا يمكن على الإطلاق إهمال تلك البراعة إن تناولها المرء من وجهة نظر فنية بحتة، يخرج المتابع الفطن والناقد البارع من صالة السينما مسحوراً بعبقرية الإخراج ويضطر في كثير من الأحيان أن ينفض رأسه كثيراً كي يستطيع تبيان الأفكار المسمومة المغطاة ببريق الكاميرا الخادع.
السينما السوداء
تنتمي أعمال «ديفيد فينشر» إلى مدرسة «السينما السوداء» أو ما يعرف اصطلاحاً «Filmnoir» وهي كلمة فرنسية الأصل تدل على نمط محدد تميزت فيه بعض الأفلام في أربعينيات القرن الماضي، النمط البوليسي الغامض الذي يجعلك تختنق من التشويق ينفذه المخرج عن طريق خدع بصرية إبداعية جذابة، لكن «ديفيد» مضى بعيداً في هذا النمط وأضاف لمسته الخاصة التي ضمنت له اسماً مرموقاً في هوليوود.
تمضي دقائق أفلامه ليحاول فيها المتابع تبيان حقيقة الأمور ومعرفة العقل المدبر وراء تلك الأحداث، ويصبح السؤال «من هو القاتل؟» العنوان الضمني لجميع المشاهد، وهنا تدور الكاميرات لتلتقط الزوايا العريضة من الغرف المحطمة وتعرض الأجزاء المبتورة والدماء المتناثرة في كل مكان، تضيق العدسة أحياناً فيظهر وجه مستغرق في التفكير يتقدم خلفية مبهمة تجبر المتابع على محاولة استباق الأحداث واستنتاج المزيد، لكنه يصاب بخيبة أمل حين ليفاجأ بانعطاف مثير آخر في القضية فيعاود المحاولة من جديد، إنه أسلوب خبيث وآسر في الوقت نفسه.
الاختيار بين «شرين»
في الفيلم الجديد «Gone Girl» يحاول «فينشر» إيقاع الجمهور في فخ جديد، إنه يستعرض قصة أحد الأزواج الأمريكيين، «نيك» و«أيمي»، أيام الأزمة الاقتصادية التي كانت سبباً في تسريحهما من وظائفهما، يضطر الزوجان إلى مغادرة بيتهم الكبير في نيويورك والسكن في إحدى الضواحي، وهنا تبدأ الخلافات الزوجية بالتفاقم بعد أن لاقى كل منهما صعوبة بالغة في تقبل نمط حياتهما الجديد، إلى أن تبدأ الأحداث بالتسارع مع اختفاء الزوجة المفاجئ واتهام الزوج بمقتلها، تتصاعد الأسئلة: «هل ما زالت على قيد الحياة؟».. «هل قتلها زوجها؟ أم زيفت موتها لتوقع زوجها؟».. يتكشف المزيد مع كل مشهد، ويقع المتابعون الفخ، ويضطر كل منهم إلى الوقوف في صف أحد الزوجين، فإما التعاطف مع الزوج المخادع الخائن الذي يضرب زوجته باستمرار، أو الوقوف بصف الزوجة المتسلطة المادية التي تحاول عن عمد توريط زوجها بجريمة قتلها!، بكل الأحوال، لا يجد الجمهور الأمريكي غرابة في ذلك، فقد اعتاد على اختيار أحد شرين يتنافس أحدهما على قلوبهم ويعمد على تشويه صورة الآخر في الوقت نفسه، ستمر هذه الحقيقة من تحت أنوفهم وهم يختارون ممثليهم في الانتخابات القريبة المقبلة لممثلي الحزبين الوحيدين من «ديمقراطيين» و«جمهوريين»، أهون الشرين!
اعتاد «فينشر» على رصد الأسوأ في المجتمع الأمريكي وإعادة تقديمه في غلاف براق صادم جذاب، لا ينسى المتابعون فيلمه الأشهر «Seven» الذي تحدث فيه عن قيام أحد المرضى النفسيين بمحاسبة مرتكبي الخطايا بطرق وحشية، الكتابات بالدم على الجدران والأعضاء المقطعة في الأحواض المنزلية هي جزء بسيط مما قدمه «فينشر» للمرة الأولى، ليبدو وكأنه يشارك المجرم الاختلال العقلي ذاته، وأصبح مشهد المحقق الذي يفتح الصندوق الكرتوني ليرى رأس زوجته المقطوع أحد «كلاسيكيات» السينما المعاصرة، يضاف إلى مسيرته أيضا الفيلم «Zodiac» الغني بصرياً بأساليب جذابة ترفع دقات قلوب المتابعين في إطار بحث الجميع عن قاتل متسلسل يحبط على الدوام محاولات السلطات إلقاء القبض عليه، اضطرابات نفسية متشابكة استعرضها «فينشر» بكاميرته الذكية، لتختفي معها «سوداوية» الأحداث المؤلمة والمستوحاة من جرائم حقيقية وقعت في سبعينيات القرن الماضي ولتحل محلها «رمادية فينشر» المليئة بالأسئلة.
«أمريكا المريضة والمعقدة نفسياً»
يتقاذف الجمهور ذاته اليوم السؤال السخيف عن فيلم «فينشر» الأخير: «هل هذا الفيلم نصير لحقوق المرأة أم لا؟»، السؤال الذي بدأ يغزو الأوساط الثقافية والفنية الأمريكية ليصبح «موضة» هذه الأيام مدعماُ بـ«آراء» المشاهير في هوليود حول موضوع «نصرة حقوق المرأة»، لأنهم بالطبع أفضل من يمكن سؤاله حول تلك القضايا، فنحصل في النهاية على زوابع دعائية فارغة بعد أن امتزجت بموجة فضائح الصور «العارية» المسربة لمشاهير من النساء فقط من على «هواتفهن» المحمولة، لكن ذلك يحتمل النقاش في وقت آخر، دعونا نجلس الآن نتابع قصة وحشية عن جريمة حصلت في «أمريكا المريضة والمعقدة نفسياً» بعدسة «فينشر» الذي يبدو أنه ينجح على الدوام في تحويل الدماء إلى عطور والجثث إلى ورود دون أن يفرغ رأسه من الأمثلة «العفنة» التي يعيشها ويراها كل يوم كمواطن بسيط في الولايات المتحدة الأمريكية.