«شكرا لكم.. الموت لكم..»
«أقف أمامكم اليوم وقلبي يطفر بالحزن، إنه يوم بهجة وعيد بالنسبة لكم، لكنه يوم أتذكر فيه الكثير من المآسي التي حلت بشعبي، أذكر فيه ما فعلتموه منذ 350 سنة، يوم نهبتم قبور أجدادي وسرقتم ثمار أرضنا وقوت يومنا، يوم تحول فيه شعبي إلى عبيد يشنقون في الساحات، يوم فتحنا لكم منازلنا الدافئة في عز الصقيع، فشكرتمونا بالبنادق والقيود.. عيدكم اليوم ليس عيدي..»
لم يقل «فرانك جيمس» هذه الكلمات في العام 1970، كان من المتوقع أن يعتلي الهندي الشاب هذا منصة الاحتفال أمام جماهير مدينة «بلايموث» الأمريكية بعد أن زودته «لجنة الاحتفال» بخطاب آخر يشيد بهذا اليوم العظيم، إنه الأسبوع الأخير من تشرين الثاني، عطلة «عيد الشكر» الشهيرة، وكان لابد من استحضار أحد «السكان الأصليين» لاستعراض الأهمية التاريخية لليوم الذي جلس فيه الجميع على مائدة واحدة شاكرين، «أصليين» و«أغراب»، لكن «فرانك» كان يحمل في جيبه خطاباً آخر، خطاباً أكثر صراحة وجرأة، خطاباً لم يعجب اللجنة على الإطلاق، فانسحب الشاب بعد أن مُنع من الكلام.
«حُجّاج» العالم الجديد
رسمياً، يحتفل الأمريكيون بعيد الشكر لمناسبة أول موسم حصاد بعد وصول الإنجليز الى أراضي أمريكا، كما أن بعض المؤرخين يعودون بهذا العيد إلى بعد التقاليد الخاصة التي حملها المهاجرون من القارة الأوروبية الأم، أما اليوم وتجتمع العائلة الأمريكية في هذا اليوم من كل عام على مائدة العشاء وتتناول طبقَ الديك الرومي كقربان يُشكر فيه القادر على نعمه، ومن المفترض ألا يبقى مع نهاية هذا اليوم سوى ديك رومي واحد على قيد الحياة يتم تقديمه للرئيس الأمريكي كنوع من التقاليد الشكلية الذي يعفو عنه ويُبقي على حياته، كما دعي المُكتشفون الأوائل للقارة الأمريكية بـ«الحُجّاج» الذين كانوا يعتبرون هذا العالم الجديد بديلاً عن الأرض المُقدّسة ومن هنا جاء الجانب الديني لهذه المناسبة وهو شكرهم لله على نجاتهم من ظُلم «فرعون بريطانيا» ونجاتهم من رحلة التيه في البحر ثم وصولهم إلى «أرض الميعاد»، لكن أيامنا هذه لا تحمل أياً من المعاني تلك، هو عطلة تمتلئ فيها البطون بالأطايب، تترافق مع تنزيلات كبيرة في الأسواق تدفع الأمريكيين لشراء كل شيء خلال تلك التخفيضات، في مشهد منفر أشبه بهجوم أسراب الجراد.
تبدو كتب التاريخ أكثر جدية في تعاملها مع ذلك العيد الوطني، حيث تتحدث الوثائق عن اعتماد الهنود الأصليين عيداً سنوياً يشكرون فيه الآلهة على نعمها من مأكل ومشرب، حيث تجتمع القبيلة بمناسبة بدء موسم الحصاد وتتشارك من منتجات الأرض مع الرقص والغناء، كان هذا قبل أن يأتي المستعمر «الأبيض» بقرون، لكن «الحجاج» نسبوا ذلك التقليد لهم، وزعموا بأن «عيد الشكر» الأول قد جرى في مدينة بلايموث في ولاية «ماساتشوستس»، حيث أولم الهنود لهم، لتصبح هذه الوليمة المشتركة المليئة بـ«الحب والتفاهم» لاحقاً رمزاً لـ«عيد الشُكر»، كما قام الهنود الأوائل بتعليم «الحُجّاج» زراعة الذرة والحبوب، ومهارات صيد السمك وكيفية تسميد الأرض، حيث لم يكن لدى هؤلاء الغزاة أدنى فكرة عن استخراج خيراتها، لكن السنين القليلة اللاحقة كانت كافية لدحض تلك الوليمة «الوهمية»، لتبدأ معها حقبة طويلة من الاستعباد والتصفية العرقية لمن رحب بالمستعمرين في دياره، فتم نشر الأمراض، واقتلاع الأشجار، حرق البيوت والأراضي وقطعان الماشية، والقضاء على سكان بعض القرى بالكامل وتهجير البعض الآخر إلى مناطق بعيدة قاسية المناخ، أو حبسهم في معتقلات لا تتوافر فيها أدنى شروط المعيشة الإنسانية وغير ذلك من الفظائع التي لا يستطيع أحد إخفاءها.
أول «عيد شكر» في التاريخ
أصبح عيد الشكر عيداً وطنياً أمريكياً جامعاً بعد انتهاء الحرب الأهلية بين الولايات، وبعد أن تناقص عدد السكان الأصليين على نحو مروع نتيجة عمليات الإبادة الجماعية تلك، ليكون رمزاً للبربرية الامريكية والهيمنة على خيرات تلك الأرض العذراء واستعباد سكانها، ولو كانت محاكم الحرب تعقد اليوم، لتم شنق «لينكولن» و«جرانت» و«شيرمان» و«شيريدين» وغيرهم من جنرالات تلك الحروب في الطرقات بعد الفظائع التي سجلها التاريخ لهم، لكنهم اليوم أبطال أميركا «الوطنيين» الجالسين في مخيلة الجماهير أمام طاولة مليئة بالأطعمة الشهية شاكرين الرب على هذه النعم الوفيرة، ولا يوجد ما هو أبلغ من كلمات «ويليام برادفورد»، عمدة «بلايموث»، الذي وصف مجزرة العام 1637 وفي «يوم الشكر» بالذات للحديث عن معاني هذا «العيد القومي الكبير»، حيث قال: «من نجا من النار، ضُرب جسده بالسيوف، كما قطع البعض منهم إلى أشلاء، قلة منهم قد هربوا لكني عددت حوالي 400 منهم يحترقون في مشهد مريع، كانت النار تقليهم على مهل وأصوات صرخاتهم تملأ المكان، بالإضافة إلى الرائحة الكريهة التي ملأت الهواء بعد أن هدأت النار، النصر يتطلب بعض التضحيات، على كل حال، رفعنا صلواتنا لله، الذي وهبنا القدرة على القضاء على أعدائنا بأيادينا، وأهدانا انتصاراً على أعدائنا المتوحشين»، فكان إعلانه هذا أول «عيد شكر» في التاريخ!