من اكتشف أمريكا؟
تبدو الإجابة بسيطة على هذا السؤال، حيث يحتل البحار الشهير «كريستوفر كولومبوس» قائمة المشاهير في صفحات التاريخ، على الرغم من أن تجربته أثبتت أنه ملاح فاشل لا يملك أي حس بالاتجاهات، كما أن «اكتشافه» المثير هذا قد اصطبغ على الفور بدماء «الهنود» من السكان الأصليين لتبدأ سنون مريرة تجاهلها كتبة التاريخ عن عمد، نعلم ذلك جميعاً، لكن الاكتشافات الأثرية الحديثة بدأت تؤكد رواية أكثر تشويقاً لم يسمعها الكثير منا من قبل، رواية قد تلقي «كولومبوس» بعيداً عن كرسي «المكتشف الأول».. رواية ترفع «العبيد» إلى مقام «حملة الحضارة» الأصليين!
يحتفل الأمريكيون هذه الأيام بما يسمى «عيد كولومبوس»، وستغلق المحلات والمدارس أبوابها في عطلة رسمية يحتفي فيها الجميع بهذا «اليوم الوطني»، وعلى الرغم من التجاهل المتعجرف لتاريخ هذا «المكتشف الفذ» و«مآثره» الدموية تجاه سكان هذه البلاد الحقيقيين، تصر المؤسسات التعليمية على تلقين الصغار دروساً من حياة هذا المستكشف الإيطالي العظيم وتنظيم احتفالات وعروض براقة تجذب العائلات في كل مكان، إنه البحار الشجاع الذي صارع أهوال المحيطات وأرسى سفينته على تلك الشواطئ التي تنضح بالحضارة والجمال، يتوقف التاريخ «المدرسي» هنا ليكمل بعد قرون أخرى، ويسدل الستار على بقية القصص، وأنا لا أتحدث فقط عن «الهنود الحمر».
قبل كولومبوس.. وقبل المسيح!!
يبدأ تاريخ السود في الولايات المتحدة الأمريكية منذ أيام العبودية، وتفرد الكثير من الأبحاث عن تلك الفترة التاريخية كفاتحة لسنين طويلة من الاضطهاد، تلتها حملات «انعتاق» و«مساواة» و«تسامح» كما يروج المؤرخون، لكن الاكتشافات التاريخية الحديثة قد أكدت اليوم بأن أصحاب البشرة السوداء وطئوا «الأراضي الجديدة» قبل كولومبوس بكثير، بل قبل المسيح بكثير! ووضعت النقوش والمخطوطات والمنحوتات المكتشفة على ضفتي الأطلسي علماء الآثار وخبراء التاريخ أمام نظرية تتعارض تماماً مع مؤرخات «المستكشف الأوروربي الأبيض».
يهمل المؤرخون ملاحظات «كولومبوس» التي سجلها بخط يده والمترجمة بدقة من قبل المؤرخ وعالم اللغة الأمريكي «ليو وينر»، والتي نشرها منذ العام 1920، حيث قال كولومبوس في أيام «اكتشافه» الأولى: «رأيت رجالاً ببشرة سوداء وأبدان نحيفة يأتون تباعاً على قوارب يحملها البحر، يتاجرون برماح رؤوسها من ذهب»، فهل هذه مصادفة؟
تتابع المخطوطات المكتشفة حديثاً دعم تلك النظرية، وتحدثت عن قيام الملك المصري رمسيس الثالث وفي العام 1292 قبل الميلاد بجمع أكثر من مائة سفينة عابراً إلى الأمريكيتين، وهذا ما أكده المؤرخ اليوناني «هرودوتس» في العام 445 قبل الميلاد عندما أشاد بالتفوق الملاحي للفراعنة المصريين، ليستند الباحث «ديفيد امحوتب» على تلك الحقائق وغيرها مطلقاً كتابه المعنون بكل وضوح: «الأمريكيون الأوائل كانوا أفارقة» متحدثاُ عن الكثير من الآثار الفرعونية في الأمريكيتين وصولاً إلى تحليل الأسماء الفرعونية لبعض أقسام «الوادي الكبير» أو مايعرف باسم «غراند كانيون» في عمق الصحراء الأمريكية، وبالطبع لم يحقق الكتاب انتشاراً كبيراً بعد أن اعتبرته الأوساط البحثية «غير أكاديمي»، هي الأوساط ذاتها التي ما تزال متمسكة بتاريخ «المسكتشفين البيض» المليء بالعنصرية والتحيز دون أي نقاش.
الفراعنة المصريون وأمريكا..
تزداد الحقيقة وضوحاً كلما ابتعدنا عن النصوص التاريخية التقليدية، لأن تلك النصوص جميعها قد وثقت في عهد لم يخجل من الاعتراف باحتقاره لأصحاب البشرة الملونة والثقافات الغريبة، تلك الأيام التي لم نعرف فيها سوى المستكشفين الأوروبيين الباحثين عن الثروات والأمجاد، وتحولت الشعوب التي مخرت عباب البحر منذ قرون بعيدة إلى شعوب «تخاف المياه» وتعيش على «الزراعة»، وتركت المياه «الدولية» للبحارة البيض يجولون فيها بكل حرية.
كان التاريخ يهدد سمعة المستعمرين والمحتلين أصحاب السطوة والقوة على تحديات الطبيعة وكان لابد من إخفائه بأي ثمن، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فكيف يستطيع أحد تجاهل التشابه المذهل بين أهرامات المصريين وأهرامات حضارة «المايا»، بالإضافة إلى التطابق الغريب في أسماء الآلهة ووظائفها وطقوس عبادتها وملامحها السوداء الفظة وشعرها الأجعد المخيف، وأيضاً التفوق المشترك في علوم الفلك والرياضيات وتنظيم التقويمات السنوية الدقيقة؟
كيف يمكن تجاهل اكتشاف بقايا للكوكايين في مواد التحنيط المصرية، تلك المواد التي لم تكن تنبت إلا في الأمريكيتين؟ كيف يمكن تجاهل حضارة «الأولميك» بالكامل، الحضارة التي تعد أساساً لحضارات المايا والأزتك والإنكا التي نعرفها، الحضارة التي تتطابق إلى حد مخيف مع الحضارة الفرعونية القديمة بعد أن توسعت وانتشرت في الوقت ذاته الذي بلغ فيه الفراعنة ذروة تقدمهم الفكري والسياسي؟ هناك المئات من تلك الأمثلة.
ماقبل ومابعد كولومبوس..
لقد بنيت أمريكا «ماقبل كولومبوس» من قبل السود الأفارقة وسلالاتهم من السكان الأصليين من «الهنود» كما يطلق عليهم، كما أن أمريكا «مابعد كولومبوس» بنيت على استعباد أولئك السود وذبح السكان الأصليين، وها هي أمريكا اليوم تبنى على استغلال «السود» و«الملونين» إلى أقصى حد ثم دفعهم خارج الحدود لأتفه الأسباب، ربما لا يحتاج الأمر إلى الكثير من «الأدلة» التاريخية لكي نستطيع تبيان الحقيقة الكامنة في صفحات المخطوطات والأحجار المنسية، هناك من يصنع الحضارة وهناك من يهوى «استهلاكها».