الفيلم الأمريكي «الجديد»..
«لقد كنت أنال الكثير من الجوائز، أحصل على الكثير من الثناء، كنت محاضراُ في صفوف الجامعة، حللت ضيفاُ في الكثير من المقابلات التلفزيونية، بل كنت أحد أهم الحكام في الكثير من المسابقات الصحفية، إلى أن قمت بكتابة هذه القصة، عندها أحسست بالخدعة التي أعمت بصري، لقد ظننت بأنني كنت أنعم بكل هذا المزايا لأني صحفي مجتهد وملتزم في عمله، وقد كنت مخطئاً، لقد عشت السنوات الجميلة تلك لأني لم أكتب فيها كلمة واحدة مهمة تستحق التعليق أو المواجهة».
كانت تلك أبلغ كلمات الصحفي الأمريكي «غاري ويب»، الذي أنهى حياته بيديه في العام 2004، وصاحب السبق الصحفي الأشهر في السنين الأخيرة من العقد الماضي، السبق الذي كاد أن يتحول إلى فضيحة عالمية في العام 1996 عندما قام بنشر صفحات عن تحقيقات أجراها تحدثت عن دعم وكالة الاستخبارات الأمريكية السري لعصابات «الكونترا» في أمريكا اللاتينية، وتمويل تلك العملية عن طريق تجارة الكوكايين ونقله إلى الولايات المتحدة الأمريكية لبيعه في أحياء الأمريكيين السود بكميات مدروسة وخطط معدة من قبل معظم الوكالات الأمريكية الأمنية.
تعرض ذلك السبق على الفور لحملة إعلامية شرسة حاولت تقويض جميع الأدلة التي احتواها وذلك عن طريق «الزملاء» من الصحفيين من أصدقاء «غاري» في صحف «نيويورك تايمز» و«لوس انجلس تايمز» و«واشنطن بوست» وغيرها الكثير، وشنت حرباً شعواء على الصحفي وماضيه وعملت على هدم مصداقيته المهنية التي عمل على بناءها طوال ثلاثين سنة من العمل، إلى أن فقد قدرته على الاحتمال وأنتحر بمسدسه بعد ثمان سنين من التشهير والقذف.
«أقتل الرسول»..
نتحدث عن الرجل اليوم لسبب هام، لقد أعلنت الأوساط الإعلامية «هوليوود» عن التحضير لإطلاق فيلم جديد يتحدث عن «غاري ويب»، دعي الفيلم «Kill the Messenger» أو «أقتل الرسول»، وهو من بطولة الممثل الأمريكي الشهير «جيريمي رينير» الذي بدأ بتصويره منذ صيف العام الماضي، وللأمانة تحوي قصة هذا الصحفي المظلوم جميع مقومات الفيلم الناجح، فهي تحدث عن صراع هذ الرجل في مواجهة الانتقاد الظالم من زملائه وليس فقط من الحكومة الأمريكية التي تنوي إسكاته، وكأن الأمرين منفصلان في الواقع!، مع التركيز الشديد على الحالة الإنسانية التي تتحدث عنها القصة، عن الدراما التي تحملها الأحداث التي مرت في حياة «ويب» القصيرة، على الصراع، التناقض، لوم الذات، الشك، مع مرور بسيط على تفاصيل قصته المنشورة، القصة التي لم يكن لـ«ويب» أي ذكرى لولاها.
إنها ليست المرة الأولى التي تتناول فيها السينما الأمريكية مثل هذه القصص، وهي تعتمد على الدوام مقاربة خاصة تعيد صياغة الأحداث بطريقتها الخاصة، عندها لا يمكنك أن تلوم القائمين على تلك الصناعة لأنهم تجاهلوا حياة ذلك المناضل أو ذاك المجدد، إنهم يروون القصة، لكن مع التحويرات اللازمة، بهدف جعل تحويل هذه القصة السينمائية الى رواية رسمية لا تحتمل التشكيك، وبالأخص إن تم تنفيذها بأسلوب جذاب وبارع يسترعي الانتباه ويعمل على «تليين» الآراء المسبقة عن الرواية ذاتها ، والأمثلة على ذلك كثيرة، تحول عملاء الاستخبارات الأمريكية في الفيلم «Argo» الشهير إلى أبطال عملية هروب ناجحة من إيران «الشريرة»، وأعيدت صياغة حياة «نيلسون مانديلا» و«مارتن لوثر كينغ» و«هوشي منه» في السينما مرات ومرات لكي نحصل على نسخة أكثر «لطافة» عن كل منهم.
رأينا حياة القياصرة الروس «الوديعة» وشهدنا «مجازر ستالين» الشيطانية على الشاشات الفضية، كثرت قصص «الحب» بين «الهندية الأمريكية» و«الأبيض الزائر» وكأن أعواماً من التصفية العرقية لم تتم، الجندي الأمريكي مضلل في الدوام في حرب زجه إليها بعض المسؤولين الأمريكيين وليس جميعهم، والذين انقادوا إلى تلك القرارات بسبب «وطنيتهم» الزائدة أو التي ساء فهمها، الرئيس الأمريكي «غاضب» على الدوام بسبب تآمر نوابه لدفعه على التهور في حروب جديدة، هو بطبعه بسيط ويحب عائلته، ولا يرتضي أن «يترك أحداً في ميدان المعارك»، إنها القصة الهوليودية المعتادة في اجتزاء الأمور وتضخيم بعض الحقائق دون سواها لنحصل على نسخة «معدلة» عن حادثة تاريخية كانت تتحدث بكل وضوح عن تورط حكومة الأمريكيين ذاتهم بتفاصيلها الدموية، لكنها أصبحت تتحدث عن معاناة فردية أو حالة إنسانية خارج سياق التاريخ.
المال إلى جيوب القتلة
حصدت تلك الأفلام الكثير من النجاحات وتوجت بالكثير من الجوائز، ويبدو بأن هذا الفيلم لن يختلف كثيراً عن مثيله، وبالأخص بعد أن أصحبت قصة «ويب» جزءاً من التاريخ، حيث سيحاول القائمون على هذا العمل إيهام المشاهد بأن ما حدث قد حدث منذ زمن بعيد وفي عهد إدارات أمريكية قد مضت وانتهت، ولن تختلف القصة عن أي حادثة جرت أيام الاستقلال أو أيام الحروب الأهلية الأمريكية، قصة لا علاقة للجمهور الأمريكي المعاصر بها، قصة لن تتكرر اليوم على الإطلاق، سيدخل الجمهور إلى الصالات ثم يخرج متأثراً بقصة الرجل المسكين، وسترتفع إيرادات الفيلم حاصدة المليارات، لتعود تلك الأموال إلى جيوب قتلة «غاري ويب» أنفسهم!!