«بحرنا».. و«بحرهم»
يزور «عبد» الشاطئ كل صباح، يأخذ وقته وهو يقلب بيديه رمال البحر شارداً صوب الأفق، لم يعد يرغب في الحديث مع أحد بعد أن التزم الشاطئ طوال النهار، تعلقت عيناه الباهتتان بالأمواج الهادرة فلا يرد السلام ولا ينبس ببنت شفة، لكن الكثير يقال في داخله يرميه كل حين صامتاً مع الحجارة الصغيرة التي يقذفها صوب البحر، «عبد» عاتب على البحر، يعلم أهل القرية هذه الحقيقة عن الصياد الشاب، لقد خطفت ذات الأمواج شقيقيه ووالده وأسكنتهم العمق الموحش، يعلم الصياد «عبد» بأن «البحر غدار» لكنه لم يكن يتخيله بمثل هذه الوقاحة!
على ضفة أخرى من المتوسط، حيث لم يسمع أحد بـ«عبد»، هناك حدث أكثر أهمية، حيث أعلنت السلطات الإيطالية في الأول من هذا الشهر إنهاء العملية البحرية المسماة «Mare Nostrum» المخصصة لنجدة اللاجئين القادمين للشواطئ الإيطالية عن طريق البحر، استمرت العملية قرابة السنة بعد انطلقت بذكرى «الجمعة الحزينة» التي غرق فيها أكثر من خمسمائة مهاجر معظمهم من السوريين على أطراف جزيرة لامبيدوسا الإيطالية، وهي تعد نجاحاً للقوات البحرية الإيطالية بعد أن ذكرت الإحصائيات الرسمية إنقاذ ما يقارب المائة ألف مهاجر على امتداد أيام تلك العملية، لكن إنهاء هذه العملية وقطع التمويل عنها في هذه الفترة بالذات طرح في البداية الكثير من التساؤلات، لكن الغموض انجلى خلال أيام من خلال التصريحات المباشرة للمسؤولين عن عملية الإنقاذ تلك.
«بحرنا نحن»..
كلمة «Mare Nostrum» لاتينية الأصل، وتعني بالترجمة الحرفية: «بحرنا نحن»، وكانت ترفع كإحدى أهم الشعارات الجديدة التي تمثل سياسة إيطاليا الموحدة بعد العام 1861، تلك السياسة التي تمثلت بتوجهات المتعصبين القوميين من الإيطاليين الداعين لاعتبار «إيطاليا الجديدة» الوريث الشرعي للإمبراطورية الرومانية القديمة، والمتمسكين بفكرة العودة إلى أيام الأمجاد عن طريق الهيمنة على الجوار، لذا لا يمكن لنا الآن أن نستغرب «أنانية» أحد المسؤولين الإيطاليين عن العملية عند سؤاله عن أسباب إيقافها، حيث قال بكل وضوح: «لقد ارتفعت أعداد المنتشلين من البحر بسلام إلى حد كبير، وهذا يعني مزيداً من التشجيع للهجرة من الشواطئ الأفريقية المجاورة، يقابله ارتفاع في أعداد اللاجئين غير الشرعيين»، بالاعتماد على هذا المنطق الأعوج، يبدو «بحرنا نحن» الاسم المناسب لهذا العملية الإنقاذية!
توالت التصريحات «الأوروبية» المشجعة للتوجه الإيطالي الرسمي الجديد، حيث وصفت «سيسيليا ماليمستروم» مفوضة الاتحاد الأوروبي لشؤون الإغاثة عملية «بحرنا نحن» بأنها ضارة للغاية لأنها، وعلى حد قولها: «بدأت ترفع من احتمالات إنقاذ المهاجرين من الغرق»، وتابعت تتحدث عن «عامل الجاذبية» الذي ستضيفه هذه العمليات على فكرة الهجرة من الأساس، سيزداد «الإغراء» وسترتفع أعداد المهاجرين غير الشرعيين بشكل لا يمكن احتماله، يتوسع طيف هذه الفكرة المشوهة لنسمعها من جديد على لسان «جويس إنيلي»، عفوا، «البارونة» «جويس إنيلي»، المسؤولية العليا لشؤون المهجرين في وزارة الخارجية البريطانية، والتي تحدثت عن زيادة «عامل السحب» الذي بدأ يغري المهاجرين غير شرعيين للمخاطرة بحياتهم للوصول إلى الشواطئ الأوروبية، وبالأخص بعد نجاح عملية «بحرنا نحن»، أما التصريح «الأجمل» فجاء على لسان «فرانسوا كريبو»، مفوض الأمم المتحدة لشؤون حقوق المهجرين الذي قال بكل وضوح: «أعلم بأن ما سأقوله قاس على البعض، لكن، دع البعض يموتون، لكي يعاود الآخرون التفكير بهذه الرحلة الخطرة!».
مهما كلف الأمر..
على كل حال، يمكن لنا أن نطمئن المسؤولين الأوروبيين، عملية «بحرنا نحن» لم تنجح من الأساس، والمقارنة البسيطة بين أعداد الغرقى وأعداد من تم إنقاذه كافية لإثبات ذلك، ولا ندري ماهي «النسبة المقبولة» للضحايا التي جعلت من تلك العملية نجاحاً غير مسبوق، كما أن جردة حساب للأموال التي وضعت تحت تصرف إدارة العملية تلقي مزيداً من الضوء على تفاصيلها، بعد أن تحدثت تقارير تلفزيونية عن إنفاق ما يقارب 4 مليار دولار على تحسين وسائل المراقبة الإلكترونية للحدود البحرية الإيطالية، وتزويدها بكاميرات المراقبة الليلية ومجموعات الطائرات من دون طيار وتخصيص صور الأقمار الاصطناعية على مدار الساعة لمراقبة الزوارق المتجهة نحو أوروبا وإجبارها على العودة فوراً من حيث أتت، «مهما كلف الأمر» يضيف أحد الضباط أمام الكاميرا ثم يعاود ويقول مبتسماً: «علينا إجبارهم على العودة.. البحر خطير على حياتهم».
لقد أطلقت سلطات الاتحاد الأوروبي الكثير من العمليات البحرية المشابهة، وكانت معظمها تتم بالتعاون مع وكالة «Frontex»، أو وكالة حفظ الحدود الأوروبية، والتي تعمل على مدار الساعة لـ«حماية» الأراضي الأوروبية من شر المهاجرين غير الشرعيين مستخدمة آخر وسائل التكنولوجيا في مجال المراقبة وتحليل البيانات، دعيت آخر تلك العمليات بـ«تريتون»، وهي - كما يقول عنها مدير الوكالة «جيل آريس» - «لا تشبه أبداً عملية «بحرنا نحن» لأنها لن تبحث عن زوارق المهاجرين مهما اقتربوا من الحدود»، بل ستعمل على «تنظيم» عملية دخولهم أو «ترحيل» من يلزم «ترحيله» وهي ستغطي فقط ثلاثين ميلاً بحرياً أمام الشواطئ الإيطالية لتترك ما تبقى من الاميال وصولا لشواطئ ليبيا دون أي زورق إنقاذ مما قد يرفع أعداد الضحايا، مما قد يساهم في التقليل من «جاذبية» فكرة الهجرة من جديد!
«إنه ليس بحرنا يا أبي»..
أما «عبد» ، فسيبقى على الشاطئ لساعة أخرى قبل أن تغيب الشمس، ودع وجوه إخوته الضاحكة وهي تعانق والده العجوز على متن الزورق الخشبي المسافر، ورفع يده مودعاً الشمس الغاربة وطيف زورق صغير ما زال يتراقص على المياه الذهبية، «عبد» عاتب على البحر، البحر الذي ظن بأنه يعرفه جيداً، اختنق بدموعه وهمس وهو يهم بالعودة: «إنه ليس بحرنا يا أبي.. ليس بحرنا»!