سمير حنا
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
جلس ببدلته الأنيقة أمام سجينه، رفع الشاب وجهه وحاول أن يبعد بيديه الأنوار الساطعة لغرفة التحقيق، وسرعان ما استطاع تمييز ملامح الجالس أمامه، وضع الرجل الأنيق حاسوباً محمولاً أمام السجين، إنها المرة الأولى التي يرى فيها تلك الآلة منذ أكثر من ست سنوات، لقد تعمد محتجزوه إبعاده عن مثل تلك الأدوات بالذات، فهو في النهاية موقوف بجرم «قرصنة معلوماتية».
وضع الشاب حقيبته الصغيرة على إحدى الطاولات، فتحها على عجل فخرج منها كيس بلاستيكي سميك، فغر الجميع أفواههم عندما بدأ الكيس العجيب بالانتفاخ، وتحولت تلك القطعة البلاستيكية المضغوطة في أقل من دقيقة إلى صندوق شفاف متماسك، أخرج الشاب أحزمة صغيرة من بعض الجيوب، وبدأ يثبتها داخل الصندوق بحذر ودقة، بدأت مراوح صغيرة بالعمل وأضاء مصباح صغير محتويات هذا الابتكار العجيب، التفت بسرعة إلى أحد الرجال، وتناول من بين يديه لفافة من القماش تضم رضيعة لم يتجاوز عمرها الساعات، نظر الشاب إلى ملامحها الشاحبة وهي تحاول بصعوبة الصراخ من دون جدوى، وأخذ يدخلها بحذر إلى داخل صندوقه العجيب ثم أغلق عليها رباطاً خارجياً وسط دهشة والدها وحيرة الحاضرين.
حملت الفتاة الجميلة الجهاز الجديد بكل خفة، ابتسمت للعدسات التي تنهمر أضواءها على منصة التقديم، ثم بدأت على الفور بالنقر على شاشته البراقة، تمايلت لتبدأ الكاميرات بنقل كافة تفاصيل وانحناءات الجهاز المنتظر، لقد استغرق تصميمه عدة سنين وها هو اليوم ينطلق في حملة دعائية عالمية ترضي عطش ملايين المنتظرين والمتابعين، كما أن هناك من ينتظر في خيمة صغيرة أمام متجر «أبل» ليحجز مكاناً يمكنه في شراء الجهاز الجديد قبل غيره..
حمل اكتشاف النفط واستثماره أهمية عظمى في تاريخ الصناعة البشرية، وبدأت الكثير من الابتكارات تعتمد على هذا المورد الطبيعي بشكل متزايد، ولم تعد أهمية هذا العنصر كسلاح استراتيجي بأيدي الدول المنتجة خافية على أحد في هذا الأيام، الكل يتحدث عنه، وما زالت الكثير من الشاشات تستعرض آثاره الاقتصادية بالأرقام والمخططات، لكن أحداً لم يعر أي اهتمام لما يقال عن المورد الطبيعي الأهم، والأقدم، والأشد تأثيراً على توازن الأمم ورفاه السكان، عن المورد الذي لا يستطيع أي كائن حي الاستغناء عنه، عن المورد الأبسط على الإطلاق: الماء.
نظر الجندي إلى شاشته المضيئة، عشرات من الجداول المتسارعة تتوارد أمام ناظريه، حرك بيديه ذراع التحكم فرأى طائرة الاستطلاع تحوم منذ مدة في السماء، تحرك المدفع الليزري الجديد المثبت على البارجة ليلاحق تلك الطائرة، ولم يمض بعض ثوان حتى وجه المدفع دفقة مركزة من الأشعة الليزرية مسقطاً تلك الطائرة كذبابة ميتة، كان المشهد مثيراً وتحول خلال أيام إلى أحد أكثر المقاطع مشاهدة على شبكات التواصل الاجتماعي، إنه المدفع الليزري الجديد LaWS الذي تم إطلاقه منذ أيام من مختبرات وزارة الدفاع الأمريكية، فكان توقيت هذا «العرض» لمزاياه ملائماً للغاية!
«إن كنت تريد الحقيقة، تأكد بأن أحداً لن يخبرك بها، سيخبرونك بنسختهم عن ذات الحقيقة، لذا، يتوجب عليك أن تبحث عنها بنفسك، وهنا تكمن القوة الحقيقية، في قدرتك على تفحص القصص جميعاً، وعندها ستصبح خطراً كبيراً على أولئك الناس، تكمن القوة فيك بالذات، مع بعض المساعدة مني بالطبع..»
نظرت العجوز إلى الشاشة بتمعن، ثم أطلقت ضحكة صاخبة على الفور، كانت قد دعتها ابتسامة شابة في إحدى المحلات التجارية لرؤية حفارة خضار اوتوماتيكية توفر عناء الحفر اليدوي، لقد شاهدت بأم عينيها صوراً للاختراع الجديد الذي قد يغير حياتها، إنها «نقارة الكوسا» الألية الجديدة، أحدث الاختراعات التي نراها اليوم على الشاشات التلفزيونية، لكنه ليس إعلانا تقليدياً على الإطلاق، إنه ابتكار المخترعة اللبنانية «رانيا أبو جودة» البالغة من العمر 22 عاماً، الاختراع الذي أوصلها إلى المرحلة النهائية في برنامج «نجوم العلوم».
عهدنا جميعاً سماع كلمة «رقمي» أو «الكتروني» وهي تصف كثيراً من الأشياء التي عرفناها لوقت طويل بشكلها التقليدي، لكن تلك التسمية اليوم غير معهودة على الإطلاق، إنها الموضة الجديدة التي تتناقلها المواقع والشاشات التلفزيونية دون أن يدري الكثير منا ماهيتها بالضبط، كما أن سؤال المختصين من الأطباء في مجال الإدمان على المخدرات زاد من تعقيد هذا المفهوم وغموضه، هل يوجد شيء اسمه: «المخدرات الرقمية»؟ ولم كل هذا الكلام حوله الآن؟
«تأجيل الخدمة الإلزامية لسنة على الأقل.. تأجيل إداري.. تأجيل دراسي ..تأجيل بداعي السفر ..خدماتنا مكفولة ومجربة.. والدفع عند الانتهاء من كافة الأوراق.. ريح بالك من كل المشاكل واترك الهم علينا.. وبمبلغ بسيط يسهل عليك حياتك..»
تابعت عيون الحاضرين العالم الوسيم وهو يصعد على المنصة، أشار الشاب إلى الشاشة الكبيرة الموضوعة خلفه وهمّ بالقول: «دعونا نتخيل آلة تمتلك التنوع الغني للمشاعر الإنسانية.. آلة تمتلك القوة التحليلية التي تفوق عظمتها كل ما تم تجميعه من إنجازات الذكاء البشري عبر التاريخ.. آلة تمتلك وعياً مستقلاً لذاتها.. يرغب بعض العلماء بتسمية ذلك المفهوم بـ «الوحدانية».. أنا أود تسميته : «الارتقاء»..