حروب.. فوق الطاولة
جلس ببدلته الأنيقة أمام سجينه، رفع الشاب وجهه وحاول أن يبعد بيديه الأنوار الساطعة لغرفة التحقيق، وسرعان ما استطاع تمييز ملامح الجالس أمامه، وضع الرجل الأنيق حاسوباً محمولاً أمام السجين، إنها المرة الأولى التي يرى فيها تلك الآلة منذ أكثر من ست سنوات، لقد تعمد محتجزوه إبعاده عن مثل تلك الأدوات بالذات، فهو في النهاية موقوف بجرم «قرصنة معلوماتية».
وهنا تبدأ قصة «نيك هاثاوي»، أحد قراصنة الشبكة العنكبوتية المحتجزين في سجون الحكومة الأمريكية، والذي منحته الأحداث العالمية فرصة لا تتكرر لتخرجه من زنزانته الضيقة إلى رحلة مشوقة حول العالم، هذا ما يطالعنا به الفيلم الامريكي الجديد «BlackHat» وهو يلقي بـ«نيك» في خضم صراع عالمي جديد على السيطرة الرقمية يلاحق فيه قراصنة محترفين قاموا باستخدام خبراتهم المميزة تلك في تنفيذ الكثير من الأعمال الإرهابية في أكثر من مكان، كان أولها إلحاق أضرار كبيرة بأحد أكبر مفاعلات الطاقة في الصين، في مشهد سينمائي لا يختلف كثيراً عن أحداث واقعية تابعها الكثير من المشاهدين منذ بضع سنين لا أكثر.
المناوشات الرقمية
شهد العقد الأخير قفزة غير مسبوقة في مجال الحرب الرقمية، كان أبرزها الاعتراف الرسمي بوجودها من الأساس بعد أن اعتادت الكثير من الحكومات إنكار وجود مثل تلك الهيئات ضمن نظامها الدفاعي الحكومي، خرج القراصنة من أقبيتهم وبدأت الكثير من الدول بتنظيم وحدات خاصة تعمل على استثمار كل ما يقدمه العلم من جديد في هذا المجال، كما أن وتيرة تلك «المناوشات» الرقمية قد تسارعت في السنوات الأخيرة وبشكل مطرد بعد أن ظهرت مفاعيلها المدمرة على الأرض، وكان البرنامج الخبيث «ستاكسنت» الاستعراض العالمي الأول على هذا الصعيد، والذي حقق أهدافه في إعاقة تطوير البرنامج النووي الإيراني منذ سنوات قليلة، وأعلن بدء مرحلة جديدة من الحرب العالمية الرقمية تتنوع مقاصدها من الضغط السياسي على الأحلاف المناوئة وصولاً لتنفيذ هجوم عسكري مباشر يلحق أثراً مادياً مدمراً.
اعتداءات رقمية
لا يعد الفيلم الجديد «BlackHat» مرجعاً موضوعياً في تبيان خبايا ذلك النوع المميز من الحروب، فهو يفتقد الحياد عندما يتعلق الأمر بأساليب الولايات المتحدة الهجومية ضد «الأعداء المفترضين» وراء البحار بالإضافة إلى ضآلة المعلومات التقنية التي يفضي بها حتى تحول في بعض المشاهد إلى فيلم حركة أمريكي تقليدي، لذا يمكننا الاستعاضة عن كل هذا ببعض الأرقام المثبتة التي تم الإعلان عنها منذ بعض الوقت، والتي تحدثت عن صرف أكثر من 4 مليارات من الدولارات على إنشاء ما تم تسميته بـ «القوى الرقمية الأمريكية» في العام 2013، وهي وحدة عسكرية دفاعية خاصة تتألف من خمسة آلاف خبير تقني مسؤول عن حفظ واستدامة الأمن التقني الأمريكي، حيث كان لا بد من رفع سوية ذلك الجانب من الاستراتيجية الدفاعية بعد أن شهد العام الذي سبقه اعتداءات رقمية على العديد من المؤسسات الاقتصادية الأمريكية كمجموعة «سيتي جروب» الاقتصادية و «بنك أمريكا» الحكومي وسواها، تلاها تفشي الفيروس «شامو» على مخدمات كبرى لشركات النفط والغاز الخليجية كشركة «ارامكو» السعودية و «راس غاز» القطرية والذي أدى إلى فقدان كميات كبيرة من المعلومات من المخدمات الرئيسية لتلك الشركات.
الملف النووي الإيراني
لم يهداً سعير الحرب الرقمية منذ ذلك الوقت، رفعت الحكومة الأمريكية ميزانية وحدتها الخاصة تلك ملياراً إضافياً في العام 2014 لكن الاختراقات الرقمية لم تتوقف، بدا وكأن أطرافاً عديدة قد بدأت بالإنشاء والتعاون وتبادل المعلومات المقرصنة، وأخذت الأحلاف السرية تزداد قوة ومنعة ضد أي إجراء ردعي، وبدأ المشاهد البسيط يعي آثار تلك التحركات السرية على الشاشات دون أن يتطلب الأمر امتلاكه أي خبرة تقنية، كما دفع التطور المتزايد في هذا المجال الكثير من الدول إلى الدخول في سباق محموم لإثبات وجودها في ساحة الحرب المستجدة تلك، فأعلنت وزارة الاتصالات الإيرانية زيادة مستوى التعاون مع «مركز أبحاث الاتصالات الإيراني»، وهو الهيئة المسؤولة عن تطوير تقنيات الحماية الرقمية وأساليب التعامل مع التهديدات المعلوماتية والذي كان له الدور الأبرز في تحقيق خطوات ملحوظة وضعت إيران في مقدمة الدول في ذلك المجال وفي زمن قياسي، الأمر الذي دفع رئيس مجلس إدارة شركة «جوجل» إلى الإعتراف بقدرة الإيرانيين تلك في حديث متلفز لقناة «سي ان ان» الأمريكية منذ عامين.
من على الكراسي
لا يمكن تجاهل هذه الإضافة الجديدة على ترسانة الحروب المعاصرة، وستحمل السنون القليلة القادمة الكثير من الحوادث التي ستعيد خلط الأوراق في لعبة القوى الدولية إلى حدود لم نعهدها من قبل، عندها لن يهتم أحد كثيراً بعدد الجنود والمدرعات والطائرات وحاملاتها بعد اليوم، وسيبحث الجميع عمن يستطيع التأثير بأي شيء يريده، وفي الوقت الذي يريده، وهو جالس على كرسيه البعيد آلاف الكيلومترات.