«زجاجة» نصائح..
حمل اكتشاف النفط واستثماره أهمية عظمى في تاريخ الصناعة البشرية، وبدأت الكثير من الابتكارات تعتمد على هذا المورد الطبيعي بشكل متزايد، ولم تعد أهمية هذا العنصر كسلاح استراتيجي بأيدي الدول المنتجة خافية على أحد في هذا الأيام، الكل يتحدث عنه، وما زالت الكثير من الشاشات تستعرض آثاره الاقتصادية بالأرقام والمخططات، لكن أحداً لم يعر أي اهتمام لما يقال عن المورد الطبيعي الأهم، والأقدم، والأشد تأثيراً على توازن الأمم ورفاه السكان، عن المورد الذي لا يستطيع أي كائن حي الاستغناء عنه، عن المورد الأبسط على الإطلاق: الماء.
لكن ما الداعي لذلك؟، فهو متوفر وبكثرة في صنابير أغلب البيوت، ربما لا ينطبق ذلك على الحالة السورية في هذه الأيام، لكن المنظور «العالمي» للأمر لم يختلف كثيراً منذ زمن، الماء حق للجميع يصل بأنابيب مخصصة تمتد تحت شوارع المدن الكبرى في كل مكان، كما أن عمليات التكرير والتحلية والتصفية جارية على الدوام، يستثنى منها بعض المناطق المهمشة من العالم والتي تعاني من صعوبات إضافية تمنع استثمار هذا المورد الحساس بالشكل الأمثل، لكن التسليم بكل هذا لم يعد نافعاً بعد اليوم، هناك من يخالف الجميع في هذا الرأي..
خصخصة مياه الشرب
إنه «بيتر برابيك»، رئيس مجلس إدارة شركة «نستله» الشهيرة، والتي ارتبط اسمها بالكثير من المنتجات المعروفة والتي تعيدنا في أغلب الاحيان إلى أيام الطفولة، لكن، لا يعلم الكثيرون بالحجم الكامل لهذه الشركة، فهي متخصصة بصناعة طيف هائل من المنتجات التي تتناولها كل يوم، وتحت مسميات عديدة، كما أن قطاع المياه المعدنية المعبأة هو من أشد القطاعات ربحاً في الشركة، حيث تمتلك وحدها سبعة عشر منتجاً فرعياً يقدم للناس مياهاً معدنية معبأة في الزجاجات البلاستيكية حول العالم، لذا قد يبدو حديث «بيتر» الأخير للإعلام حول «خصخصة» مياه الشرب أمرا طبيعياً للغاية، «بيتر» الذي يجلس على عرش شركة تتجاوز أرباحها الـ 65 مليار دولار بقليل!
جائزة «الكوكب الأسود»
فكرة «بيتر» بسيطة للغاية، طرحها في معرض الفيلم الوثائقي التعريفي بالشركة المسمى: «نحن نطعم العالم»، فلنتجاوز العنوان الاستعلائي قليلاً ولنخض في التفاصيل، حيث يقول بيتر بكل صراحة : «يعد الماء من أهم الموارد الطبيعية في العالم، مما يطرح سؤالاً حول إمكانية خصخصة مخزون مياه العامة، وهنا لابد من النظر في رأيين مختلفين حول هذا الموضوع، يفيد الأول بضرورة الحفاظ على مياه الشرب كحق لجميع الناس دون استثناء، أظن بأنه رأي متطرف للغاية، وأميل لمصلحة الرأي الثاني الذي ينظر إلى المياه كأي سلعة أخرى في السوق، لذا يجب أن يكون لها قيمة سوقية يستفيد منها الجميع، ويمتلكها من يقدر على ذلك..»، ألقى «بيتر» موعظته هذه أمام الكاميرا واندفع يبدي مزيداً من الآراء حول الكثير من القضايا البيئية والإنسانية الأخرى، لتنكشف الصورة الدنيئة لرجل حاصل على جائزة «الكوكب الأسود» في العام 2007، والني تمنح خصيصاً لأكثر الشخصيات تدميراً لكوكب الأرض!
إنه «يطعم» العالم
يعلم «بيتر» جيداً ما يقول، ويشاركه في آرائه تلك العديد من الشركات الكبرى حول العالم، والتي بدأت ترسم خططاً مستقبلية تستهدف الكثير من موارد الطبيعة المتناقصة، وتتربع قضايا المياه على قمة خطط العمل تلك، وسرعان ما تحول كبار رجال الأعمال وأزلام البورصات الضخمة وأثرياء أثرياء العالم إلى شراء المياه أينما كانت، واحكموا سيطرتهم على مؤسسات إدارة هذا المورد الحيوي الخاصة منها والعامة حول العالم، وبدأت البنوك العالمية الكبرى مثل «جولدمن ساكس» و «جي بي مورغان» و «سيتي غروب» و «اتش اس بي سي» بالإضافة إلى قائمة طويلة من أغنياء العالم بالهيمنة على أي بحيرة أو خزان جوفي أو أي شركة تعمل في مجال تنقية أو نقل او البحث العملي في مجال المياه العذبة.
الخصخصة والهيمنة على الموارد
يظن «بيتر» بأنه رجل أعمال ناجح، يقول للمشاهدين ناصحاً: «رجل الأعمال الناجح هو من يقاتل للحفاظ على مستقبل مربح لشركته »، ويبدو بأن خطط «خصخصة» مياه الشرب قد بدأت بإيراد الكثير من الأرباح، فلا داعي لإطلاق التصريحات التي قد تبرر مثل تلك الأفعال في المستقبل، والتي تريد أن تقنعنا بأن أرباح «خصخصة» ذلك القطاع قد ترفع من مستوى المعيشة، علينا ألا ننسى، لم تستطع خصخصة أي منتج طبيعي أو خدمة إنسانية تحقيق أي خير جمعي للإنسانية، ولم تستطع حتى خلق نظام متماسك وناجح، تعني الخصخصة زيادة هيمنة القوى الكبرى على الموارد، مما يعني قدرة أكبر على التحكم، كما يعني مزيداً من الدمار والفوضى بعد أن تصبح قطرات الماء الأخيرة على الأرض محور صراع مدمر لا عودة منه.