بين النجوم.. والكوسا..!!
نظرت العجوز إلى الشاشة بتمعن، ثم أطلقت ضحكة صاخبة على الفور، كانت قد دعتها ابتسامة شابة في إحدى المحلات التجارية لرؤية حفارة خضار اوتوماتيكية توفر عناء الحفر اليدوي، لقد شاهدت بأم عينيها صوراً للاختراع الجديد الذي قد يغير حياتها، إنها «نقارة الكوسا» الألية الجديدة، أحدث الاختراعات التي نراها اليوم على الشاشات التلفزيونية، لكنه ليس إعلانا تقليدياً على الإطلاق، إنه ابتكار المخترعة اللبنانية «رانيا أبو جودة» البالغة من العمر 22 عاماً، الاختراع الذي أوصلها إلى المرحلة النهائية في برنامج «نجوم العلوم».
بلغ البرنامج من العمر ستة مواسم إلى الآن، وما زال يحقق الكثير من المتابعة والتفاعل بعد انطلاقه حصرياً على قناة MBC4، وحتى بعد أن انتهى عرض الموسم الأخير منذ أسابيع قليلة، يتميز البرنامج بدمجه بين النمط الوثائقي وتلفزيون الواقع والمخصص لدعم الابتكارات المتميزة، وهو الامر الذي جعله البرنامج العربي الأول من هذا النوع كـ«منصة مميزة تسهم في اكتشاف وتطوير أكثر الأفكار ابتكاراً في المنطقة وإطلاع الجمهور العالمي عليها» كما يصفه الدكتور «فؤاد مراد»، العضو الدائم في لجنة التحكيم والمدير التنفيذي لمركز الإسكوا الإقليمي للتكنولوجيا، لكن الموقع الرسمي للبرنامج يصفه على الدوام بـ«برنامج تلفزيون الواقع التعليمي الترفيهي»، وهذا أقرب إلى الحقيقة.
الجائزة الكبرى
لا توجد بعد ملامح محددة تستطيع بواسطتها وصف «نجوم العلوم» بدقة كأحد البرامج «العلمية»، هناك العديد من البرامج «الوثائقية» التي حملت كماً من المعرفة العلمية لشرائح مختلفة من المشاهدين، كما حاولت بعض برامج «المسابقات» تزويد المشاهد العربي ببعض المعارف عن طريق تسلسل متصاعد من الأسئلة والأجوبة للوصول إلى «الجائزة الكبرى»، لكن جميع تلك الوسائل قد افتقدت حالة «تخصصية» تهتم بنقل المحتوى العلمي المعاصر بأسلوب جذاب دون تشويه أو ارتهان للإبهار الزائد، كما أن البرامج العلمية تعاني في حد ذاتها من فجوة موضوعية كبيرة تفصلها عن المشاهدين يعود السبب الأساسي فيها إلى تنوع المستوى المعرفي للمشاهد ليسقط البرنامج العلمي منذ البداية في فخ التعقيد المنفر أو التسطيح الساذج.
الفخ ذاته
في «نجوم العلوم»، المفهوم آسر والتحدي كبير، حيث تبلغ قيمة مجموع الجوائز هذه السنة 600 ألف دولار أمريكي بإشراف «مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، وهو يستقبل اليوم 12 مشتركا من أنحاء العالم العربي المختلفة يعملون تحت إشراف خبراء عالميين في مجال الهندسة والتصميم. عندها يتم اختبار سمات المرونة والإبداع وروح العمل الجماعي لدى المبتكرين من خلال مواجهة تحديات طيلة فترة البرنامج إلى أن تتحول افكارهم إلى منتجات متكاملة قادرة على دخول الأسواق، تبدو الفكرة جميلة بالمجمل، لكن التفاصيل تحمل كثيراً مما قد يقال، ويرى البعض بأن نجوم العلوم لم يستطع تجاوز الفخ ذاته.
برنامج الواقع
يخضع البرنامج لقواعد برامج «تلفزيون الواقع»، وهو أمر له سلبياته الكبيرة إن تعلق الأمر بالحكم على «الابتكار العلمي»، فللجمهور حصة لا بأس بها من الأصوات يتشارك بها مع مجموعة لائقة من كبار العلماء والباحثين العرب الذي يشغلون منصة التحكيم، وفي هذه الحالة لا يمكن ضمان «موضوعية» التصويت بعد أن ينحاز المشاهد إلى «ابن بلده» كما هي الحال في مسابقات المواهب الأخرى، كما أن تفاصيل عملية الابتكار الفعلية والمصاعب التقنية التي تواجه المشتركين لا تقارب في ظهورها على الشاشة حالات «المعاناة» النفسية والجسدية والدموع والضحكات والخلافات والمضايقات وسواها من العوامل التي تجعل من «برنامج الواقع» جذاباً وجديراً بالمتابعة، يضاف إلى الاهتمام الزائد الذي أظهرته الأجزاء الأخيرة من البرنامج بالعملية التسويقية للمنتج على حساب المراحل «الابداعية» الأخرى.
نجوم بلا جاذبية
قدم المشاركون هذه السنة مجموعة متنوعة من الابتكارات، كالسوار المنبه للصلاة، وجهاز شحن الهاتف من بطارية هاتف آخر، وسوار آخر لتشخيص الصحة، وغيرها.. لكنها ليست بالأفكار المبتكرة التي قد تمنح صاحبها لقب «نجم» ومعظمها يتم ابتكاره في الكثير من الجامعات العربية في إطار مشاريع التخرج، وبالأخص، عند مقارنتها مع الابتكارات الأخرى التي تطالعنا بها بعض المواقع الالكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي في محيطنا العربي من قبل مجموعات شبابية مستقلة، والتي لا تحتاج لكل ذلك الدعم المادي، أو حتى عند مقارنتها مع المشاريع الأخرى التي رفضها البرنامج في مراحله الاولى بسبب افتقادها لـ«الجاذبية»، حتى بدا من المحرج اعتبار بعضها صفوة الابتكار العربي و«المدعوم»!
الاحتكام العلمي للمنطق
يعد «نجوم العلوم» و بلا شك خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح، وهو يمهد لحالة شعبية جديدة ترفع من حب الشباب العربي للابتكار وتدفعه إلى تطوير نفسه، لكنه لم يبلغ بعد دوره المنشود كراع رسمي للعلم والعلماء العرب كما يروج عنه الكثيرون، وربما لن يبلغ ذلك أبداً، فدعم الجهود العلمية العربية لا يبدأ في استوديوهات ام بي سي او سواها، إنه عملية إدارية متكاملة تشمل دعما حكومياً يتزامن مع أفواج الخريجين المتزايدة ، هي عملية فرز موضوعية تفصل بين الهواة والجادين وتضع خططاً سريعة تحد من هجرة العقول العربية نتيجة غياب سياسات الدعم أو تعقيد سبل التسويق، كما أن اختصار الجهد العملي الشبابي العربي في مثال «تلفزيون الواقع» هو محاولة إعلانية ساذجة تخرج «الاحتكام العلمي للمنطق» من الصورة تماماً، وهو ما انساقت إليه العديد من المنابر الإعلامية العربية التي تحاول تارة تحويل «تلفزيون الواقع» هذا إلى مؤسسة رائدة تخرج «نجوماً» في العلوم ثم تعمد تارة أخرى إلى رميه بالحجارة إن تم إقصاء أحد المشتركين الحاملين لجنسيتها!