ويكي.. «حقيقة»
«إن كنت تريد الحقيقة، تأكد بأن أحداً لن يخبرك بها، سيخبرونك بنسختهم عن ذات الحقيقة، لذا، يتوجب عليك أن تبحث عنها بنفسك، وهنا تكمن القوة الحقيقية، في قدرتك على تفحص القصص جميعاً، وعندها ستصبح خطراً كبيراً على أولئك الناس، تكمن القوة فيك بالذات، مع بعض المساعدة مني بالطبع..»
تعود هذه الكلمات لـ«جوليان أسانج»، مؤسس «ويكيليكس» وراعي أسرارها المثيرة، ربما لم يسمعها أحد من على لسانه بالذات، لكن الكثير قد سمعوها تنطق في الفيلم الشهير «The Fifth Estate» الذي عرض العام الماضي، والذي تناول حياة «جوليان» وتجربته مع «ويكيليكس» للمرة الأولى، برع الممثل فيه « Benedict Cumberbatch» في أداء الدور، لكن «جوليان» أبدى انزعاجاً كبيراً من الفيلم آنذاك، وعده هجوماً فاضحاً على خط ويكيليكس المستقل والحر، الخط الذي هز العالم قبل عدة سنين.
حقائق فاضحة
يعيش «جوليان» اليوم في السفارة الأكوادورية ببريطانيا، بعد أن منح حق اللجوء السياسي هرباً من تسليمه إلى سلطات بلاده، وفي شقة جميلة تكلف حراستها يومياً ما يقارب ال 15 ألف يورو، وتبتعد الكثير من أجزاء حياته بعيدة تماما عن الإعلام، وبالأخص ماضيه المتعلق بمهنته البرمجية والقرصنة المعلوماتية، فيبقى القسم المتخصص بـ«ويكيليكس» حاضراً في الواجهة، فالوثائق التي استحصل عليها الرجل بطرقه الخاصة ما زالت تكشف، وهي تبدو فاضحة للكثير من الحكومات والشركات حول العالم، كما أن فعلته هذه كانت الشرارة الأولى لسجال طويل يخوضه العالم منذ بضع سنين، حول حقوق الخصوصية الفردية وسياسات الحكومات السرية في الداخل والخارج.
باحثون عن الحقيقة
في مثل هذه الأيام ، نشر موقع «ويكيليكس» أول وثيقة بعد تأسيسه في تشرين الأول من العام 2006، وخلال شهور لمع اسم الموقع ومؤسسه ليصبح محجاً عالميا للـ «باحثين عن الحقيقة» كما يشير الموقع، واستطاعت جوانب نشأته الغامضة وتوقيته المريب أن تنسل بعيداً عن عدسات المراقبين، كان الجميع مذهولاً بما يقرؤه، آلاف الأوراق السرية أصبحت مفتوحة للجميع يومياً ومن كل مكان، كان الأمر أشبه بالثورة، لم يعر الكثير من المتابعين أي اهتمام للمنظومة الإعلامية الجديدة التي أخذت من تنازع القوى السياسية والإعلامية وتضارب المصالح الدولية وقوداً لنارها، وبدأت الكثير من الصحف تتناقل أخبارها وتعيد نشر الفضائح كأداة للهجوم السياسي على الخصوم، كما حاول البعض ربط اسم «ويكيليكس» بكثير من الأخبار الملفقة خدمة لأجندة سياسية محددة، عندها كان الامر يحتاج للكثير من الوقت كي تتضح الفضيحة بداخل الفضيحة، وهذا ما رأيناه واضحاً في منطقتنا العربية بالذات، التي تعاني من تكاسل مخجل في عملية التحقق من المصادر الصحفية.
من الثقافة الشعبية
إلى الاقتصاد السياسي
لكن الأيام حملت الكثير لـ «ويكيليكس»، فأصبحت مؤسسة «ويكيليكس» مادة دسمة للكثير من الكتب والأفلام الوثائقية التي تتناول موضوع الحرية الشخصية ودور الإعلام في السياسة بشكل جدي للغاية، كان آخرها «ويكيليكس: من الثقافة الشعبية إلى الاقتصاد السياسي»، والذي احتوى مجموعة مقالات أعدها الباحث السويدي «كريستيان كريستنسين»، الأستاذ في جامعة ستوكهولم، حيث ضمّ الكتاب مقدمة وخمس عشرة مقالة تستعرض علاقة «ويكيليكس» بالمنظومات المؤسساتية والحكومات التي تخوض معها نزاعاً مستمراً، وعلاقتها الحالية مع وسائل التواصل الحديثة والشبكات الاجتماعية، وعلى الرغم من دفاع بعض المقالات عن «ثورة» ويكيليس ومبادئها الرائدة في الصحافة المعاصرة، إلا أن الكتاب لم يخل من بعض الملاحظات الموضوعية التي تتناول «ويكيليكس» كحالة تستحق الدراسة والتمحيص بدلا من الاستسلام لموجة الإعجاب السطحي بالأفكار التي تنادي بها، وهو أمر لابد يحتاج لكثير من الإطالة.
بلا زعل
عانى «جوليان» الكثير من الملاحقة والمحاكمة الدورية، ولم توفر الحكومات المتضررة من عملية التسريب الأكبر في العالم أي جهد لتلطيخ سمعته وتدمير ما بناه طول السنين الماضية، بالكتب والأفلام والتقارير الصحفية والتلفزيونية من على منابر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن ذلك يجب ألا يمنحه فرصة للتهرب من المتابعة والتحليل الموضوعيين، وفي هذه الأيام بالذات، بعد أن اصبح اختراق الحريات الشخصية أمراً بالغ الحساسية يمس الجميع دون استثناء، وهذا ما بدأت تتشكل ملامحه الآن في التجارب الأولى في السينما وعلى رفوف المكتبات، بموضوعية، ومن دون أن «يزعل» أحد.