بالفعل.. «هل تعلم..؟»
نظر الجندي إلى شاشته المضيئة، عشرات من الجداول المتسارعة تتوارد أمام ناظريه، حرك بيديه ذراع التحكم فرأى طائرة الاستطلاع تحوم منذ مدة في السماء، تحرك المدفع الليزري الجديد المثبت على البارجة ليلاحق تلك الطائرة، ولم يمض بعض ثوان حتى وجه المدفع دفقة مركزة من الأشعة الليزرية مسقطاً تلك الطائرة كذبابة ميتة، كان المشهد مثيراً وتحول خلال أيام إلى أحد أكثر المقاطع مشاهدة على شبكات التواصل الاجتماعي، إنه المدفع الليزري الجديد LaWS الذي تم إطلاقه منذ أيام من مختبرات وزارة الدفاع الأمريكية، فكان توقيت هذا «العرض» لمزاياه ملائماً للغاية!
تناقلت وكالات الأنباء ذلك المقطع بكثير من الاهتمام، وحصل السلاح الجديد على «الدعاية» التي يحتاجها بعد أن تناوب الكثير من «المنافسين» على استعراض عضلاتهم في عروض عسكرية مشابهة، لكن الغرابة تكمن في انتظار أكثر من عشر سنين لإطلاق هذا السلاح أمام الجمهور، كان هذا ما صرحت به وزارة الدفاع الامريكية متذرعة بحاجة السلاح الجديد لكثير من الاختبارات المسبقة، ربما لن يعود الأمر بهذه الغرابة إن قابلنا الدكتور «جيرالد روس» ، أحد أبرع علماء الطاقة، والذي حصل على براءة اختراع جهازه الجديد الذي يخلص الإشارات الكهرومغناطيسية المتنقلة عبر الأثير من كافة أنواع التشويش عند الترددات العالية، قد يضحك الرجل عند وصف اختراعه بالجديد، فهو يذكر جيداً بأنه تقدم لطلب براءة الاختراع تلك منذ 37 عاماً!
نظام تحذير التطبيقات الحساسة
«لم كل هذا التأخير؟» حسناً.. لابد من سؤال مكتب تسجيل براءات الاختراعات الأمريكي، وبالأخص بعد أن تم إلغاء السرية عن العديد من الوثائق التي نشرتها شركة Kilpatrick Towsend & Stockton, LLP للمحاماة، والتي تمثل شركات عملاقة كـ «جوجل» و «أبل» و«تويتر» فيما يتعلق بالأمور القانونية، تحدثت الوثائق عن خضوع تلك الاختراعات لمجموعة قديمة من القوانين، تفرض «حجزاً» على أي اختراع تصنفه الحكومة الأمريكية حساساً لأمنها القومي، وإلى أمد غير محدد، هذا يعني بأن هناك الكثير من الاختراعات المشابهة لاختراع الدكتور «جيرالد»، وهي حبيسة المكتب هذا حتى يتم إطلاقها في الوقت المناسب، لا يعلم أحد ماذا فعل هذا المكتب السري بتلك الاختراعات، أو حتى تفاصيل عملها، لكن الوثائق الجديدة وضحت بأن العملية تخضع بالكامل لما يسمى : «نظام تحذير التطبيقات الحساسة» أو SWAS اختصاراً، والذي يمتلك القدرة القانونية على احتجاز ما يرغب من الاختراعات بحجة حماية «الأمن القومي».
قانون سرية الاختراع
لاقى الخبر الكثير من المتابعة من قبل المختصين هذه الأيام، خاصة بعد الاحتدام اليومي حول أمور السرية وحقوق الخصوصية في العالم الرقمي، واستشهد البعض بأرقام «اتحاد العلماء الأمريكيين» والتي أفادت بأن أكثر من 5000 اختراع قد وضعوا تحت أوامر «السرية» عن طريق قانون SWAS في العام 2014 فقط، وهو الرقم الأعلى منذ أكثر من عشرين سنة، وعاد البعض إلى العام 1951، الذي شهد إطلاق القانون السري المسمى «قانون سرية الاختراع» والذي يمثل الوثيقة الام لمشروع SWAS، وهنا يمكن لنا أن تخيل عدد الاختراعات التي حجبتها الحكومة الأمريكية عن مواطنيها والعالم منذ ذلك التاريخ، لكن التقرير يخص الاختراعات المتعقلة بشبكة الانترنت والأجهزة المحمولة الذكية ببعض الاهتمام متحدثاً عن «احتجاز» الكثير من التطورات التقنية في ذلك المجال منذ سبعينيات القرن الماضي!
الإفشال المتعمد للطاقة الشمسية أمام النفط
للولايات المتحدة الأمريكية تاريخ طويل في إنشاء المشاريع السرية ودعمها بمكاتب وأموال خارجة عن تدقيق أي هيئة شرعية منتخبة، فقد ظلت وكالة الأمن القومي ست سنين دون أي رقابة منذ انشائها في العام 1952، ولم تخضع مصاريفها لأي مراجعة شرعية، كما بقي «مكتب الاستطلاع القومي» أكثر من ثلاثين سنة خافياً عن الجميع، ولم تخضع المعلومات التي استحصل عليها ولا حتى مناهج تنفيذها لأي مساءلة منذ العام 1960 إلى اليوم، وبالتالي خضعت الكثير من منتجات التقنية العلمية لحجج «الأمن القومي» المشابهة، وهذا ما دفع الصحفية «دانا بريست» إلى كتابة مقال مطول لصحيفة الواشنطن بوست في العام 2010 وصفت فيه عالم أمريكا العلمي السري بأنه «أصبح كبيراً لدرجة مخيفة، أصبح سرياُ لدرجة لا يعلم فيها أحد كم ينفق عليه من المال، كم يحوي من عاملين وموظفين، وكم هو عدد الوكالات التي تنطوي بداخله والتي تعمل على كثير من المشاريع المتقاطعة..»، كان واضحاً بأن هناك من يعمد على الدوام إلى تقييد حرية الابتكار وحصره بالقرار السياسي المرتبط بالمؤسسة العسكرية الأمريكية، يكفي أن نعلم بأن جميع سبعينيات القرن الماضي قد شهدت فورة في ابتكار وسائط الطاقة البديلة التي تستفيد من أشعة الشمس، لكن مكتب الاختراعات احتجز جميع النماذج التي أمنت توفيراً فاق الـ 20 بالمائة، وأطلقت للعلن النماذج الأقل نجاحاُ والتي تؤمن نسبة منخفضة من التوفير، آنذاك، فشلت الطاقة الشمسية في أمريكا أمام قوة «النفط»، كان ذلك متعمداً.
طبقتان متمايزتان معرفياً
تسعى الحكومة الأمريكية إلى خلق طبقتين متمايزتين معرفياً، هذا هو المشروع الذي بدأت ملامحه تطفو على السطح خلال العقد الأخير من الزمن، مسائل «حيادية الانترنت» و «تعديل قوانين الاتصالات» و «تجسس» شركات التواصل الاجتماعي على مستخدميها تتقاطع جميعها لتصب في خدمة هذا المشروع، يضاف إليها اليوم ما تم الإعلان عنه فيما يتعلق بقوانين براءات الاختراع، هناك جماعات تريد أن تبقى على «معرفة» بكل شيء، وعليها أن تحافظ على قنوات وصولها «الاحتكارية» إلى بنوك المعلومات في كل مكان تحت طبقات وطبقات من الحماية والسرية، حتى لو اضطرهم الأمر إلى العيش في عالم منفصل تماما عن عالمنا، يتفوق فيه من يملك «نور» المعرفة على من يعيش في «الظلام»..