«الارتقاء».. إلى أين..؟!

كان هذا الدكتور «ويل كاستر» أحد ألمع العقول العلمية في مجال الذكاء الصنعي، لم يكن قد توصل بعد إلى خلق مثل تلك الآلة «الافتراضية» عند إطلاقه ذاك التصريح، كما أنه ليس حقيقياً أصلاً، فهو أحد شخصيات الفيلم «Transcendence» أو « الارتقاء » الذي تم إطلاقه هذه السنة من بطولة الممثل الشهير «جوني ديب»، لكن، عليك ألا تتجاهل كل ما قاله «ويل» وكأنه خيال علمي سينمائي تقليدي، هناك من يحاول جدياً صنع مثل تلك الآلات، وكما حدث في الفيلم، إنها ليست رحلة مبهجة أبداً.
تحميل الوعي على جهاز حاسوب
يتحدث الفيلم عن نية أحد العلماء صناعة ألة تمتلك وعياً مستقلاً بذاتها يجعلها قادرة على التعلم وتجميع المعارف وتكوين الخبرات، لكن المجاهرة بمثل ذلك الطموح كلف الدكتور «ويل كاستر» حياته بعد أن قامت مجموعة متطرفة باغتياله في إحدى المؤتمرات بعد أن ضاقت ذرعاً من استخفافه بفردية الوعي البشري وتميزه، لم يمت العالم على الفور بل قامت زوجته بالاعتناء به بمساعدة أحد أصدقاء «ويل» وشريكه العلمي، عندها اتفق الثلاثة وبعد الكثير من التردد على تحويل فكرة الدكتور «ويل» إلى واقع عن طريق «تحميل» وعيه المتلاشي على جهاز حاسوبي خارق كان «ويل» قد طوره مسبقاً، وهنا تبدأ المغامرة، يموت جسد «ويل» بينما يبقى وعيه حاضراً ضمن الآلة، ويبدا بالتوسع باطراد بعد أن أخذ طريقه باتجاه الشبكة العالمية، عندها تحول «ويل» إلى شبه إله وبدأ يتدخل في كل شيء في هذا العالم، وبدا في نظر زوجته وحشاً لا يخفى عنه شيء، عندها، كان لابد من إيقافه.
نقل الوعي عبر الشبكة
واليوم، تعود فكرة هذا الفيلم إلى الواجهة، فقد أعلن الدكتور «أندريا ستوكو» وزملاؤه في جامعة واشنطن عن إنهاء تجربة ناجحة تتلخص في توصيل دماغين مستقلين عبر شبكة الانترنت وتحقيق تفاعل حقيقي بينهما دون الحاجة حتى إلى النطق بأي كلمة، وفي التفاصيل، قام فريق الدكتور «ستوكو» وبتمويل من مكتب الابحاث العلمية للجيش الأمريكي –وهذا مريب للغاية- بتوصيل دماغ أحد المشتركين إلى جاهز خاص يعمل على نقل نشاطاته الذهنية عبر شبكة الانترنت إلى مشترك آخر يبعد عنه مئات الكيلومترات، يحمل لوحة أزرار تتحكم بإحدى ألعاب الكمبيوتر البسيطة، وضعت شاشة اللعب أمام المشترك الأول، وأمسك المشترك الثاني بلوحة التحكم، وكم كان الأمر مثيراً عندما نظر الأول إلى الشاشة وضغط الثاني على الأزرار، أبدى الدكتور «ستوكو» حماسة كبيرة وصرح لصحيفة «الانديبندنت» بأنها البداية فقط في مجال نقل الوعي عبر الشبكة،  وأسهب في الحديث عن تطبيقات اختراعه العملية، وبالأخص في مجال التعليم الالكتروني، «لاداعي للشرح الممل بعد الآن»، يقول «ستوكو»،«سيجلس الطالب فتنتقل أفكار الأستاذ إلى دماغه بكل سهولة، مهما كانت طريقة الأستاذ جامدة في الشرح والتوضيح»، كم كنت بحاجة لمثل هذا الاختراع يا «ستوكو»، قلت لنفسي.
الديكتاتور الرقمي الجديد
على كل حال، يبدو من السذاجة التسليم برؤية «ستوكو»، فهي لم تتجاوز بعد نطاق التأملات وتحتاج للكثير من إعادة النظر، لكن الحديث عن مثل تلك الأمور أصبح الشغل الشاغل للأوساط العلمية اليوم، كما أن ظهور الفيلم «Transcendence » جاء في وقت ملائم تماماً، اشتعلت قضية حيادية شبكة الانترنت بعد تسجيل العديد من حالات الاختراق والتنصت حول العالم، كما بدأت التقارير تتحدث عن تدخل شركات خدمة الانترنت الأمريكية الخاصة بالمحتوى المعروض على الشبكة العنكبوتية العالمية، وأضيفت إليها فضائح «جوجل» و «فيسبوك» المتعلقة باستخدام معطيات المشتركين لأغراض تسويقية وسياسية، تلتها فضائح «أبل» فيما يخص نشر الصور الفاضحة لمشاهير هوليود، الكل يتساءل عما يجري وراء الستار، عن هوية المتحكمين بكافة تفاصيل حياتنا الرقمية اليومية، لم تعد الخصوصية أمراً مسلماً به، وبالطبع سيلاحظ الجمهور الكثير من الأمور المألوفة عندما يرون صورة الديكتاتور الرقمي الجديد وهو يحشر أنفه في كل شيء بعد أن أصبح الفضول البشري التواق دافعه إلى المعرفة والتعلم، فتصبح صورة الدكتور «ويل كاستر» البشرية وهي تتحدث من قلب شاشة رقمية لتأمر وتحرك كل شيء التجسيد الوحشي لما قد تؤول إليه الأمور ، كما أن التطبيق العملي لمثل ذلك الابتكار يعني التسليم بوعي «أحدهم» وهو يمتلك السيطرة على كل المنافذ الرقمية للتواصل والتأثير ،لكن انتظروا، تكمن العبرة في النهاية، سيفاجأ المشاهدون عندما تظهر الدوافع الحقيقية وراء كل ذلك، إنه «الحب»، حب «ويل» لزوجته، حسناً، أستطيع تقبل ذلك كنهاية منطقية لفيلم هوليودي، لكن إن كان القصد تعميم تلك النهاية على واقع الهيمنة الرقمية الأمريكية على العالم، فلن يصدق أحد بأن «الحب» هو الدافع الحقيقي لكل هذا..أبداً!