لماذا غيّر كيسنجر رأيه؟

لماذا غيّر كيسنجر رأيه؟

خلال لقاء له على القناة الألمانية ZDF، وإجابة عن أحد أسئلة المحاور، قال كيسنجر: «التخلي عن الأراضي الأوكرانية لا يمكن أن يكون شرطاً يمكن قبوله».

يوم 23 أيار الماضي، أي قبل شهرين من التصريح أعلاه، وخلال حضوره لمؤتمر دافوس، قال كيسنجر: «يتعين على أوكرانيا التنازل عن أراضٍ لروسيا للمساعدة في إنهاء الغزو»... فما الذي جرى، ولماذا الانتقال من النقيض إلى النقيض؟

 

خطف خلفاً

الوقوف عند تصريحات كيسنجر وتغيرها، وتحليل تلك التصريحات، ليس بالأمر القليل الأهمية إطلاقاً، بل وربما ضمن الظروف الحالية، تبدو تصريحاته القليلة نسبياً أكثر أهمية حتى من تصريحات الرئيس الأمريكي نفسه؛ فليس خافياً أنّ الرجل كان وما يزال جزءاً من الدولة العميقة في الولايات المتحدة، والتي يستمر عملها بغض النظر عن الواجهات التي تتعاقب على السلطة، ناهيك عن علاقته المعروفة والقوية بكل من ملوك النفط والسلاح وكذا الصهيونية العالمية، مما يعني أنه، وإلى حد غير قليل، يلعب دور أحد المنظرين الأيديولوجيين لمصالح النخبة العالمية، وفي بعض الأحيان يلعب دور الناطق غير الرسمي باسمها...

لابد قبل المضي أبعد في تفسير انتقال كيسنجر في موقفه من الوضع الأوكراني 180 درجة كاملة، أنْ نذكّر بأنّ قاسيون قد خصصت مادتين موسعتين لنقاش تصريحاته السابقة. الأولى بعنوان: «تصريحات كيسنجر "الصادمة"، والمأساة الكوميدية»، ونشرت بتاريخ 25 أيار الماضي، والثانية بعنوان: «قنبلة بريكس الهيدروجينية السلمية، ما الذي جرى بين (كيسنجر-دافوس) و(بوتين-بطرسبورغ)؟»، ونشرت بتاريخ 23 حزيران الماضي.

تشكل المادتان السابقتان الأساس الضروري الذي تبنى فوقه هذه المادة، ولأنه من الصعب تلخيص كل الأفكار التي وردت فيهما، (والأفضل هو العودة لقراءتهما عبر الرابطين المرفقين أعلاه)، سنكتفي هنا بتلخيص أهم تلك الأفكار:

  • شكلت تصريحات كيسنجر نهاية أيار الماضي «صدمةً» في الأوساط الإعلامية والسياسية؛ ودعا فيها للحوار مع الروس سريعاً وخلال شهرين، وعرض ضمناً إمكانية التنازل عن أراضٍ من أوكرانيا في سبيل الوصول إلى صفقة.
  • في حينه قلنا ما جوهره إنّ الرجل يعرض بكلامه هذا صفقة على الروس، وباسم النخبة العالمية، الغرض منها هو إغراء روسيا ببعض من أراضي أوكرانيا، مع موقع معقول ضمن النظام العالمي الحالي، ولكن ضمن شرط واحد أساسي: هو وقف روسيا حربها المشتركة مع الصين، لا على أوكرانيا، بل على النظام المالي العالمي.
  • وقد تبين سريعاً أنه ينطق فعلاً باسم النخبة العالمية، (وبغض النظر عن "الصدمة")، فقد سارع القادة الأوروبيون وحتى بايدن لتكرار جوهر كلام كيسنجر نفسه علناً (كل ذلك مبين في المادتين السابقتين).
  • وقد رصدنا أنّ حالة من التهدئة الإعلامية امتدت لأقل من شهر: من 23 أيار مع تصريحات كيسنجر، وحتى 17 حزيران، حيث انتهت التهدئة وعاد التصعيد إلى أعلى مما كان عليه قبل التهدئة، وما يزال مستمراً في تصاعده... في 17 حزيران، أعلن بوتين في مؤتمر بطرسبورغ أنّ: «العمل جار لإنشاء عملة احتياطية دولية على أساس سلة عملات بريكس». وهو ما أسميناه في المقالة السابقة بأنه القنبلة الهيدروجينية السلمية لبريكس.
  • مع هذا التصريح، بات واضحاً لدى النخبة العالمية بأنّ الصفقة التي جرى تقديمها من تحت الطاولة قد تم رفضها.
  • منطق الصفقة في جوهره، هو أحد تنويعات الدفتر العتيق للتاجر المفلس كيسنجر؛ والمقصود هو محاولة استيعاب روسيا واحتوائها وإنْ بتقديم تنازلات مهمة، لإبعادها عن المعركة الدولية الكبرى حول النظام العالمي، وفي هذه الحالة لإبعادها عن الصين. ونقول تنويعة من دفتر عتيق، لأنّ هذا ما جرى وإنْ من الباب الثاني؛ أي عبر الصين وضد الاتحاد السوفياتي في القرن العشرين وعلى يد كيسنجر نفسه.

 

ما الجديد الإضافي؟

لم يكن كيسنجر بحاجة للخروج مجدداً للتعبير عن موقف معاكس 180 درجة عن موقفه قبل شهرين؛ فأمر العمليات نحو تصعيد شاملٍ قد وصل إلى الموظفين المعنيين (من رؤساء أوربيين وموظفين في مؤسسات الاتحاد الأوروبي وكذا للموظف الأمريكي الأول، أي بايدن.. وإلخ)... أمر العمليات بالتصعيد وبفشل الصفقة كان قد وصل منذ 17 حزيران، فما الذي دعا كيسنجر للظهور مجدداً لتأكيد الأمر؟

  • تصعيد الموظفين بدرجة رؤساء في أوروبا وأمريكا، ليس الكلمة الفصل بحالٍ من الأحوال، فهؤلاء يمكن أن يتغير كلامهم أو يتم تغييرهم هم أنفسهم متى استدعت الحاجة، ولكن تصريح كيسنجر يعني بالضبط أنّ الصفقة/العرض، قد تم سحبه بشكل نهائي عن الطاولة.
  • بين 17 حزيران، أي الإعلان عن قنبلة بريكس الهيدروجينية السلمية، وما تبعها من تصعيد، وبين السحب النهائي للصفقة، فإنّ أموراً كثيرة وكبرى قد حصلت...
  • الفشل الأمريكي الذريع في زيارة بايدن، بما يحمله ذلك من مخاطر كبرى على مستقبل البترودولار بالدرجة الأولى، وعلى مستقبل الكيان الصهيوني بالدرجة الثانية.
  • نجاح القمة الثلاثية في أستانا ليس في تعزيز العلاقات الثنائية فحسب، بل وفي القفز فوق اللغم الأمريكي الذي حاول تصوير أستانا كقطب مضاد للسعودية ومصر والدول العربية عموماً... ليس أدل على ذلك من أنّ المفاوضات السعودية الإيرانية ستنتقل للعلن قريباً، وستكون مباشرة أيضاً... وليس خافياً أنّ الروس والصينيين يلعبون دوراً مهماً في دفع الدولتين للوصول إلى أرضية مشتركة، وهذا الأمر يجري العمل عليه ليس منذ أشهر، بل منذ سنوات عديدة.
  • فوق ذلك، فإنّ كلاً من السعودية ومصر وتركيا تتحضر للانضمام إلى بريكس...
  • وليست أقل أهمية ورمزية على الإطلاق، من كل ما سبق ذكره، مسألة الوكالة اليهودية، والتي كتبت قاسيون عنها مادتين موسعتين: «روسيا والوكالة اليهودية: أبعد من أوكرانيا، وأقرب إلى موسكو!»، و«ماذا يقول الإعلام الغربي حول أزمة الوكالة اليهودية؟ في أي سياق تظهر هذه الأزمة؟ أي معاني تحمل؟».
  • جوهر المسألة أنّ الوكالة اليهودية هي تمثيل رمزي وعملي ليس لدولة الكيان الصهيوني، كما يروج الإعلام، بل للصهيونية العالمية، أي للشركة الأم للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة. والصهيونية العالمية هي بالجوهر كتلة رأس مالٍ مالي ذات سطوة عالمية واسعة، ومرتبطة بالدولار ارتباطاً عميقاً ووجودياً... وبدء روسيا المعركة ضد الوكالة اليهودية يعني أن المعركة مع النظام المالي العالمي قد دخلت «قدس الأقداس»، وقد قطعت أي إمكانية للتراجع، وتحولت إلى معركة وجودية بالنسبة للنظام المالي العالمي، وللصهيونية ضمناً، وكذلك لروسيا...

هذا كلّه يعني أنّ احتمالات الوصول إلى أي نوع من أنواع الصفقات قد بات أضعف بما لا يقاس مما كان عليه قبل شهرين... المعركة ستستمر على المستوى العالمي، وليس مستبعداً أيضاً أن تشمل الصين بالتوازي مع شمولها لروسيا؛ فتأجيل المعركة مع أحدهما كان ضمن احتمال أن يتم تحييد الآخر، أما والأمور ما هي عليه اليوم من وحدة حالٍ وتضامن وتعاون بين روسيا والصين، فلم يعد أمام النخبة العالمية إلا أن تخوض حرب يوم القيامة الخاصة بها على كل الجبهات وفي الوقت نفسه...

مع ذلك، فإنّ احتمالات الوصول إلى تسوية عالمية كبرى لا تزال قائمة، ولكن شكلها الوحيد المتاح سيكون أقرب لمعاهدة استسلام أكثر منه معاهدة سلام...

(English version)

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1081
آخر تعديل على الأحد, 31 تموز/يوليو 2022 23:56