ماذا يقول الإعلام الغربي حول أزمة «الوكالة اليهودية»؟ في أي سياق تظهر هذه الأزمة؟ أي معاني تحملها؟
ينقسم التقرير التالي إلى قسمين، الأول: هو رصد إعلامي لكيفية تعاطي الصحافة «الإسرائيلية» والغربية خلال الأيام الماضية مع قرار إيقاف عمل «الوكالة اليهودية» في روسيا. والثاني: يتضمن محاولة لتقديم مقاربة تفسيرية للمسألة، وعلى أساس السياق الدولي والإقليمي الذي تجري ضمنه...
القسم الأول: رصد إعلامي
بدأ الكلام حول «الوكالة اليهودية» وإيقاف نشاطاتها في روسيا في بداية الشهر الجاري، وإن لم يكن هناك أي تأكيد حول الموضوع آنذاك، إلا أن صحف الكيان وصحف غربية وغير غربية تناولت الموضوع، وطرحت تفسيراتها المتماشية مع أجنداتها في إطار العملية العسكرية في أوكرانيا، ولكن أهم من ذلك في إطار الحرب الغربية على روسيا، وعلى الدول الصاعدة التي بدأت تغير ميزان القوى الدولي، وتحدث انزياحات في المركز الغربي. في ذلك الوقت، أفرد مركز دراسات قاسيون مقالاً حول الموضوع بعنوان «روسيا و«الوكالة اليهودية» أبعد من أوكرانيا وأقرب إلى موسكو!».
عاد موضوع الوكالة إلى الواجهة قبل بضعة أيام، بالتحديد يوم الخميس، وتمت تغطيته بشكل مكثف في الصحف «الإسرائيلية» وغيرها منذ ذلك اليوم. وتمحور مجمل الكلام حول الموضوع ذاته، وربط إغلاق الوكالة بالعملية العسكرية في أوكرانيا. وأضافت كافة الصحف- بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- فكرة أن ما يحصل هو رد روسي على الموقف «الإسرائيلي» والضحية هي.. كالمعتاد... اليهود، وفي هذه الحالة اليهود الروس، حيث كرر تقريباً كل مصدر كلام وزير الكيان لشؤون المغتربين قوله عن إن «اليهود لن يكونوا رهائن الحرب في أوكرانيا».
في صحافة الكيان
نشر موقع صحيفة «معاريف» في 21 تموز عاجل بعنوان «بعد إغلاق مكاتب الوكالة اليهودية: وفد وزاري يتوجه إلى روسيا الأسبوع المقبل». وأضاف الخبر، أن «رئيس الوزراء يائير لابيد أجرى مؤخراً تقييماً للوضع فيما يتعلق بأنشطة الوكالة اليهودية في روسيا... وتقرر إرسال وفد مشترك من ديوان رئيس الوزراء ووزارة الخارجية ووزارة العدل ووزارة الاستيعاب الأسبوع المقبل، لضمان استمرار عمل الوكالة اليهودية في روسيا».
وفق مقالة في موقع تابع لصحيفة «يديعوت أحرونوت» في 21 تموز، فإن «الوكالة (اليهودية) فكرت بوقف النشاط بنفسها بداية الشهر، بعد أن طالبت الحكومة الروسية بتلقي معلومات عن اليهود الذين يريدون الهجرة إلى إسرائيل» ولكن «الوكالة رفضت خوفاً على سلامتهم».
نشرت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» مقالة في 23 تموز قالت فيها: إنه «يُنظر إلى الموقف العدواني من قبل الحكومة الروسية على أنه غير عادي للغاية، ويأتي في رد واضح على موقف «إسرائيل» من غزو موسكو لأوكرانيا المجاورة، وكذلك على الحملة «الإسرائيلية» المستمرة ضد إيران في سورية، والتي تعارضها روسيا في بعض الأحيان». وحسب المقالة «في أواخر الشهر الماضي، أبلغت السلطات الروسية الوكالة اليهودية في رسالة بأنها تخطط لاتخاذ إجراءات قانونية ضد المجموعة. سعت الوكالة اليهودية في البداية إلى معالجة هذا الأمر بهدوء ولوحدها، لكنها دعت وزارة الخارجية «الإسرائيلية» منذ ذلك الحين للتدخل لصالحها».
في هذا السياق، ووفقاً للمقالة، قال وزير الكيان لشؤون المغتربين إن «اليهود الروس لن يقعوا رهائن بسبب الحرب في أوكرانيا، ومحاولة معاقبة الوكالة اليهودية على موقف «إسرائيل» من الحرب هي محاولة مؤسفة ومهينة... لا يمكن فصل يهود روسيا عن علاقتهم التاريخية والعاطفية بدولة إسرائيل». وحسب مصدر مطلع «الأسبوع الماضي، بدأت وزارة الخارجية التدخل رسمياً نيابة عن الوكالة اليهودية، حيث تحدث السفير الإسرائيلي لدى روسيا... مع نائب وزير خارجية البلاد، ميخائيل بوغدانوف، حول هذه المسألة... ونفى بوغدانوف في الاجتماع أن تكون الخطوات ضد الوكالة اليهودية شكلاً من أشكال الانتقام الدبلوماسي». وأضافت المقالة، أن «هذه القصة أثارت ذكريات محنة اليهود في الاتحاد السوفييتي، الذين مُنعوا لسنوات عديدة من الهجرة إلى إسرائيل وممارسة دينهم علانية».
وفي مقال نشره موقع «بهول» في 22 تموز، والموقع يصف نفسه على أنه «أكبر موقع إلكتروني حريدي في العالم»، يقول فيما يتعلق بموضوع إغلاق الوكالة: إن «مسؤولاً عالي المستوى في الجالية اليهودية (في روسيا) راضٍ فعلاً (عن القرار) قال: «إنهم يجلبون غير اليهود إلى إسرائيل». ادعاء آخر في روسيا هو أن: إسرائيل تختار الهجرة على وجه التحديد لليهود المتعلمين تعليماً عالياً». وأضاف آخر، أن «الهجرة إلى إسرائيل تسحب العقول والعلماء من هنا، والحكومة قلقة من هذا الأمر، فتصعّب الأمور على الوكالة».
في مقالة نشرها موقع «كيبا» حول الموضوع في 21 تموز وتطرق تقريباً إلى الأفكار ذاتها المذكورة أعلاه، أضاف على لسان وزير الكيان لشؤون المغتربين «إن محاولة معاقبة الوكالة اليهودية على موقف إسرائيل من الحرب أمر وضيع ومهين. لن ينفصل اليهود الروس عن السياق التاريخي والعاطفي لدولة إسرائيل».
وفق مقالة نشرها موقع صحيفة «جيروزاليم بوست» في 23 تموز، فإن الصحيفة «علمت أن الوكالة اليهودية أطلقت سراً خطة لنقل عملياتها في روسيا إلى إسرائيل، وتشغيل عملية الهجرة عن بعد. وجاء القرار عقب طلب وزارة العدل الروسية يوم الخميس بإغلاق أنشطة الوكالة في روسيا». وحسب المقالة، فإن «ما يفهم هو أنه لا يوجد حل للوضع القانوني المعقد في روسيا، وبالتالي، هناك حاجة لإنشاء نظام يتيح طلبات هجرة يهودية عن بعد». ولكن وفق «مصدر في الوكالة، بدون القدرة على الترويج للهجرة في روسيا، ستنخفض معدلات الهجرة بشكل كبير في السنوات المقبلة». وأشارت المقالة إلى أن الوفد الحكومي «الإسرائيلي» الذي سيتوجه إلى موسكو لاحقاً لمتابعة هذا الموضوع مشكّل من «مستشارين قانونيين من الوزارات المختلفة... على الرغم من أن هؤلاء الخبراء القانونيين ليس لديهم فهم كامل للنظام القانوني الروسي، إلا أنهم– وفق مصدر حكومي– يعتزمون الإظهار لموسكو أن الحكومة الإسرائيلية «جادة» بشأن نواياها لحل القضية».
** (يجب ملاحظة أنّ المقالة تمّ التعديل عليها يوم 24 تموز، حيث تمّ تقريباً تعديل/حذف النص المقتبس هنا).
وكانت حكومة الكيان قد اتخذت القرار بتشكيل وفد للذهاب إلى موسكو يوم الخميس الماضي عندما تم اتخاذ إجراءات عملية لوقف عمل الوكالة اليهودية في روسيا، ووفق مقالة نشرتها صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» يوم 23 تموز، فإنه «من المتوقع أن يعقد (رئيس الوزراء) لابيد اجتماعاً إضافياً يوم الأحد قبل مغادرة الوفد». وحسب المقالة، فإن «مسؤولين إسرائيليين يخشون أن نية روسيا لإغلاق الوكالة اليهودية في البلاد يمكن أن تتطور بسرعة إلى حدث دبلوماسي كبير».
وتطرقت قناة «I24» الإخبارية في مقال نشرته على موقعها يوم 23 تموز إلى موضوع إيران فيما يتعلق بإغلاق الوكالة اليهودية في روسيا، حيث جاء في المقال: «زعمت وسائل إعلام روسية، أمس الجمعة، أن إغلاق الوكالة اليهودية في البلاد «يشكل خطوة أخرى يتخذها الكرملين اتجاه إيران». وزُعِم أيضا أن «لفتة موسكو السابقة اتجاه طهران كانت الهجوم المعادي للسامية من قبل وزير الخارجية سيرجي لافروف، الذي ادعى أن لأدولف هتلر جذور يهودية، واختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صداقة طهران، وبالتالي فهو يبتعد بعلاقاته عن إسرائيل».
في الصحافة الغربية
وفق مقالة نشرها موقع «ميدل إيست آي» الإخباري البريطاني يوم 21 تموز، «يأتي التحرك ضد الوكالة اليهودية وسط خلاف دبلوماسي مستمر بين البلدين بشأن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. على الرغم من أن إسرائيل لم ترسل مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا، فقد أدانت الغزو الروسي لجارتها». أضافت المقالة أن «وزارة الخارجية الإسرائيلية امتنعت في البداية عن إقحام نفسها في القضية، مفضلة السماح للوكالة بالتعامل معها بشكل مستقل».
كذلك وفق مقالة نشرتها وكالة «رويترز» من لندن في 21 تموز، فإن «التحرك ضد الوكالة (اليهودية) التي تتخذ من القدس مقراً لها، وهي أكبر منظمة يهودية غير ربحية في العالم، جاء في أعقاب انتقادات من جانب إسرائيل للحرب الروسية في أوكرانيا، حيث اتهم وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد في نيسان روسيا بارتكاب جرائم حرب». وحسب المقالة «هاجر حوالي 7000 يهودي من روسيا إلى إسرائيل العام الماضي، وفقاً لبيانات الحكومة الإسرائيلية. قال متحدث باسم الوكالة اليهودية: إن حوالي 16 ألف مهاجر وصلوا من روسيا منذ بداية الحرب».
وأضافت مقالة في صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في 21 تموز، أن «خطوة الحكومة الروسية كانت بمثابة هجوم مركز على اليهود في روسيا، وبدا أنها تقلب جهود الرئيس فلاديمير بوتين على مر السنين لبناء علاقات أوثق مع إسرائيل والجالية اليهودية». وذكرت المقالة أنه «وفقاً لمسؤول في الوكالة اليهودية، أرسلت الوزارة (العدل الروسية) خطاباً قبل حوالي أسبوعين إلى مكتب الوكالة في موسكو تتهمها فيه بانتهاك قوانين الخصوصية من خلال الاحتفاظ بتفاصيل المتقدمين للهجرة إلى إسرائيل في قاعدة بيانات» و«قال المسؤول، الذي لم يُصرح له بالتحدث علناً خلال الإجراءات القانونية: إن الرسالة تضمنت مظلمةً لا علاقة لها بالادعاءات القانونية: إن إسرائيل تستخرج بعضاً من أفضل العقول من روسيا، التي تضم مئات الآلاف من الأشخاص من أصول يهودية». كما «قال مسؤول الوكالة اليهودية إن الاستياء الروسي من إسرائيل بشأن مجموعة متنوعة من الأمور الأخرى قد يساعد أيضاً في تفسير الضغط الروسي الجديد. وتشمل هذه الأنشطة العسكرية الإسرائيلية في سورية والنزاع على ممتلكات كنيسة في القدس». وككل المقالات المذكورة هنا، ربطت هذه المقالة التحرك القانوني اتجاه الوكالة اليهودية بموقف الكيان من العملية العسكرية في أوكرانيا.
أضافت المقالة أيضاً، أن «رئيس الكونجرس اليهودي الروسي، يوري كانر، قال: إن تحرك الحكومة الروسية لتصفية الوكالة يمثل ضربة للجالية اليهودية في روسيا، حتى لو كان لا يزال من الممكن تجنب التفكيك الكامل لعملياتها. وتوقع أن تدفق الروس الذين ينتقلون إلى إسرائيل- كما يتضح من الارتفاع الحاد في الاهتمام بتعلم العبرية- سيزداد أكثر» وأضاف، أن «تحرك الحكومة ضد الوكالة اليهودية رفيعة المستوى يأتي وسط تحول سريع في الجيوسياسية للسيد بوتين وفي المشهد السياسي المحلي– مما أثار أصداء الحقبة السوفييتية، عندما عانى اليهود من النظر إليهم على أن لديهم ولاءً مزدوجاً». ووفق المقالة، فإن «الحرب في أوكرانيا جعلت السيد بوتين يتلمس الحلفاء في صراعه المتصاعد مع الغرب، بينما يغذي حملة موسعة ضد أي شخص داخل روسيا لديه ولاءات مشبوهة. في وقت سابق من هذا الأسبوع، قام السيد بوتين بزيارة إيران، العدو اللدود لإسرائيل، واحتفل بتوطيد العلاقات بسرعة في لقاء مع المرشد الأعلى للبلاد».
وبالرغم من أن المقالة ركزت على الوكالة فقط، وموضوع اليهود في روسيا، وموقف الكيان من العملية العسكرية في أوكرانيا، إلا أنها ذكرت في نهايتها، وإن كان ضمن سياق موضوع أوكرانيا، أن الحكومة الروسية اتخذت إجراءات مشابهة، وأوقفت عمل عدة منظمات لها ارتباطات غربية أو مقرها الأساسي في بلد غربي.
ونشرت «بي بي سي» البريطانية مقالة أيضاً حول الموضوع في 22 تموز، بعنوان «روسيا تتجه لإغلاق الوكالة اليهودية في صدع أوكرانيا». وأشارت المقالة إلى عدد من «المعلومات» منها: أن «إسرائيل لم تنضم إلى العقوبات الدولية بعيدة المدى ضد روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا» وأن «روسيا احتجت في نيسان بعد أن اتهم وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك يائير لابيد... روسيا بارتكاب جرائم حرب. ودافع لبيد عن تصويت إسرائيل على تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة»، وبالتأكيد لم يغب عن «المعلومات» التي قدمتها الصحيفة ذكر أن «وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف زعم أن الديكتاتور النازي أدولف هتلر «كان لديه دم يهودي». وتصور روسيا زوراً حكومة أوكرانيا على أنها «نازية»، ومع ذلك فإن الرئيس فولوديمير زيلينسكي يهودي عرقياً». وفق المقالة، فإن «عشرات الآلاف من الروس ذهبوا خارج البلاد منذ غزو أوكرانيا في 24 شباط، بمن فيهم العديد من المهنيين الشباب... وهناك تكهنات بأن الحرب والعقوبات ضد روسيا تغذي هجرة الأدمغة التي تضر بمستقبل روسيا».
القسم الثاني: مقاربة تحليلية
قبل الانتقال إلى سرد بعض الاستنتاجات حول المستجدات في المسألة، من المفيد التذكير بالخلاصات التي وقفت عندها مادة مركز دراسات قاسيون السابقة حول الموضوع، وهي كالتالي:
أولاً: لا يمكن لأية دولة التعامل مع «إسرائيل» إلا بوصفها جزءاً عضوياً من المشروع الغربي بأسره، وضمناً كجزءٍ من النظام الدولي الذي تجري الآن الإطاحة به؛ أي أنّ شتى التفسيرات والتحليلات التي تتعامل مع «إسرائيل» بوصفها دولة طبيعية، أو «دولة قائمة بحد ذاتها» ويمكنها أن تنتقل بين المحاور الدولية، أو أن توازِن بينها، هو ضربٌ من القصص الخيالية لما قبل النوم. فهذه «الدولة» موجودة بوصفها مشروعاً وامتداداً لمشروع غربي، إلى ذلك الحد الذي لا يمكنها فيه أن تستمر في البقاء في حال انحسر ذلك المشروع... ولذا، فإنّ التعامل الروسي مع هذه «الدولة»، لا يمكن له أن يتم خارج هذا التشخيص، وذلك بغض النظر عن المستوى الدبلوماسي والإعلامي الذي يتم من خلاله تناول المسألة.
ثانياً: إضافة إلى كون «إسرائيل» امتداداً للمشروع الغربي، فإنّ ما هو أكثر أهمية، أنها امتدادٌ بالذات للمشروع الأنغلو- ساكسوني، وللكتلة المالية الصهيونية ضمنه؛ أي بالذات للمشروع الذي تجري الحرب الروسية اليوم ضده؛ لأنّ هذه الكتلة وهذا المشروع، هما المهدد الأول من العمل الروسي الصيني على ضرب الدولار وعلى ضرب منظومته العالمية... وبهذا المعنى، فإنّ أي حديث عن «حيادٍ إسرائيلي»، أو عن محاولات موازنة، أو انحيازٍ جزئي لأوكرانيا، هو مجرد تعميةٍ عن واقع الحال.
ثالثاً: ما لا ينبغي أن يغيب عن البال لحظة واحدة، هو أنّ «الوكالة اليهودية» هي الشركة الأم، و«إسرائيل» هي أحد فروعها، وليس العكس. والمواجهة مع الوكالة اليهودية وإنْ كانت تعني ضمناً مواجهة مع «إسرائيل»، لكنها أكبر من ذلك بما لا يقاس في جوهرها؛ فهي مواجهة مع معلم «إسرائيل»، أي مع الصهيونية العالمية، كجزء من المواجهة الشاملة مع المنظومة الأنغلوساكسونية الدولارية.
رابعاً: في السياق نفسه، فليس خافياً الدور الصهيوني الخطير في تفكيك وتدمير الاتحاد السوفييتي، بل وفي العمل ضده منذ 1917 وحتى قبل ذلك... وضمن ما بات مكشوفاً حول هذا الدور تاريخياً، ليس فقط المساهمة الأساسية في تخريب الاتحاد السوفييتي وتفكيكه، بل وأيضاً في العمل لتخريب الحركة الشيوعية العالمية، وكذلك العمل ضمن منطقتنا عبر «المشروع الإسرائيلي» التخريبي... وإنْ كان ذلك «تاريخاً»، فهو مستمر حتى الآن، وليس خافياً ضمنه، أنّ للصهيونية نفوذاً غير قليلٍ في روسيا الحديثة، أحد أهم تمظهراته هو قسمٌ كبير من الأوليغارك اليهود الذين يضعون يدهم على موارد هامة في روسيا، بل وعلى قسم من أهم الوسائل الإعلامية فيها... أي أنهم يمثلون شبكة كبرى من «عملاء النفوذ» في روسيا. كما هو واضح، فإنّ الغرب عاجزٌ عن تكبيل روسيا وضربها وإنهائها من الخارج، سواء بالوسائل العسكرية، أو الاقتصادية أو الإعلامية أو الدبلوماسية أو غيرها؛ ولذا فإنّ الوسيلة الوحيدة التي يمكنه اللجوء إليها هو تفكيكها من الداخل؛ وهذا الأمر بات علنياً في تصريحات وتحليلات العديد من الوسائل الإعلامية الغربية... وهنا يأتي دور الصهيونية ممثلة بالوكالة اليهودية، والتي تقع على عاتقها اليوم مهمة أن تكون رأس حربة في عملية تفكيك روسيا من الداخل، وباستخدام الوسائل الاقتصادية والثقافية الإعلامية بالدرجة الأولى. ولأنّ هذا الأمر واضح، ولأنّه لا يمكن لدغ روسيا من الجحر ذاته مرتين، فإنّ عملية ضرب هذه الأوليغارشية قد بدأت فعلاً، ومصيرها الحتمي هو أن تشتد وتتعمق وصولاً لاستئصالها كلياً...
ما الجديد؟
إذا كانت الأخبار التي ظهرت حول وقف الروس عمل «الوكالة اليهودية» في روسيا قبل أسابيع قليلة، قد تم التعامل معها على نطاق واسع بقدرٍ من التشكيك وعدم اليقين، فإنّ أخبار الأيام الأخيرة قد قطعت الشك باليقين بأنّ التصعيد مستمر، وأنّ المسألة جدية وتمضي باتجاه واحد.
يضاف إلى ذلك، أنّه بين موجتي الأخبار حول الوكالة، قد جرى الكثير، وعلى الأقل هنالك قمتا جدة وطهران تقعان بين الموجتين، وتحملان تأثيراً كبيراً على معاني الموجة الثانية ومضامينها؛ إذ يمكن تلخيص الإطار العام لقراءة المسألة بما يلي:
أولاً: لم يعد خافياً على أحد أنّ الولايات المتحدة قد فشلت فشلاً ذريعاً في كل المهام المدرجة على جدول أعمالها ضمن قمة جدة؛ فلا مسألة رفع إنتاج النفط تم إقرارها (وقد صرح السعوديين رسمياً قبل وبعد الزيارة، أنّ أي تغيير في حجم إنتاج النفط لن يتم إلا عبر (أوبك+)، أي إلا عبر تنسيق وتوافق مع روسيا). كذا الأمر مع محاولة الوصول إلى تطبيع واسع بين السعودية والكيان، والذي لم ينجز منه سوى الحد الأدنى الذي نفت السعودية لاحقاً أن يكون تطبيعاً، بل مجرد صفقة حصلت من خلالها على السيادة الكاملة على تيران وصنافير وعلى قرار أمريكي بسحب القوات الأمريكية من الجزيرتين. وعن «الناتو العربي»، أو التحالف/ التعاون العسكري المعلوماتي بين دول عربية والكيان لمواجهة إيران، فقد تم نفي أي احتمال لحدوث ذلك، أو لاحتمال حدوثه مستقبلاً، بل وأكثر من ذلك، فإنّ السعوديين والإيرانيين أعلنوا البارحة عن أنّ المفاوضات بين الطرفين لاستعادة العلاقات الدبلوماسية ولتسوية أزماتهما قد سارت خطوات معقولة إلى الأمام، وأنها ستنتقل إلى مرحلة جديدة، ستكون فيها علنية... وربما مباشرة، وليس فقط عبر الوسيط العراقي. يضاف إلى ذلك أنّ ما قد يعتبر أحد أهداف زيارة بايدن للمنطقة، وهو ترميم الشرخ في العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية، هو الآخر لم يفشل فحسب، بل تدل المؤشرات المختلفة، بما فيها حملة التراشق الإعلامي الرسمي التي تلت الزيارة، على أن ذلك الشرخ قد بات أكثر عمقاً... (يمكن الرجوع في هذا السياق لتصريحات الجبير وفيصل بين فرحان، وتصريحات المسؤولين الأمريكيين، بما في ذلك تلك الخاصة بالدعوى القضائية الخاصة بخاشقجي...)
ثانياً: في قمة طهران وحولها، ظهر مستوىً أعلى من التوافق بين ثلاثي أستانا، وضمناً بين موسكو وطهران من خلال توقيع جملة من الاتفاقيات المتنوعة والشاملة لمجالات عديدة وصلت قيمتها إلى 40 مليار دولار، وهو ما تلقته الصحافة الصهيونية بالعويل والصراخ... ناهيك عن الإدانة المتكررة للبيان الختامي للقمة لاعتداءات الصهاينة على سورية، وربما أكثر وضوحاً من ذلك، الكلام الروسي الجديد عن عمل القمة الثلاثية على: «تحديد الخطوات المشتركة باتجاه تحقيق أهداف الوصول إلى تسوية نهائية ودائمة في سورية»، ما يعني أنّ الحل الفعلي في سورية قد بات أقرب من أي وقت مضى، وليس حلاً مؤقتاً أو تجميداً للصراع بل «تسوية نهائية ودائمة»، وهو ما يعني الكثير بالنسبة للكيان الذي يمد أصابعه بكل اتجاه، وخاصة بما يتعلق باتجاهات الحل السوري. وبات واضحاً أن من نتائج القمة أيضاً أنه تم تأريض «العملية العسكرية التركية» وإرجاؤها إلى أجل غير مسمى، وربما إرجاؤها نهائياً، وهي العملية التي كان يجري التعويل عليها أمريكياً و«إسرائيلياً» لإحداث بلبلة ضمن صفوف ثلاثي أستانا، ولتعقيد الوضع السوري مزيداً من التعقيد... وبالتوازي، فإنّه لا يمكن فهم جملة الجرائم التي جرت ضد مدنيين بشكل خاص خلال الأيام القليلة التي تلت القمة، في كلٍ من شمالي العراق وإدلب وشمال شرق سورية والسقيلبية، إلا كجزءٍ من محاولات الإضرار بالتوافق الثلاثي، وأياً تكن الأيدي المباشرة التي ارتكبت تلك الجرائم، والتي ليس من المستبعد نهائياً أن تكون بتخطيط غربي، وربما بريطاني خصوصاً، وبتنفيذ من تجار الحرب والمتشددين من الأطراف المختلفة في المنطقة...
ثالثاً: بات معلناً أنّ السعودية وتركيا ومصر تتجهز للانضمام إلى تحالف بريكس خلال السنوات القليلة القادمة...
بالمجمل، فإنّ ما يجري هو أنّ هنالك تقارباً متسارعاً بين خصوم الأمس (تركيا، إيران، السعودية، مصر)، أي بين كل الدول الإقليمية الأساسية في المنطقة، وبمعزلٍ عن الكيان الصهيوني، وبرعاية مباشرةٍ من الروس، وغير مباشرة من الصينيين.
هذا كلّه، يقدم تفسيراً أوضح لطبيعة التصعيد الجاري بما يخص «الوكالة اليهودية»، ويضعه في سياقه الحقيقي كجزء من المعركة العالمية الشاملة ضد الهيمنة الغربية، وضد النظام المالي والسياسي العالمي المحكوم غربياً ودولارياً، والذي تجري الآن عملية نسفه...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1080