روسيا و«الوكالة اليهودية» أبعد من أوكرانيا وأقرب إلى موسكو!

روسيا و«الوكالة اليهودية» أبعد من أوكرانيا وأقرب إلى موسكو!

نشرت صحيفة جيروزاليم بوست «الإسرائيلية»، يوم الثلاثاء الماضي، 5 تموز الجاري، مقالاً حصرياً بعنوان: «روسيا تصدر أمراً للوكالة اليهودية بوقف كل نشاطاتها في البلاد».

ورغم أنّ الخبر لم يجر تأكيده من أية جهة أخرى، بل وجرى نفيه لاحقاً، إلا أنّ الأكيد، وعلى لسان مسؤول رفيع في الوكالة (ضمن الرابط السابق نفسه، حيث تم تحديثه بعد أيام من نشره)، هو أنّ الوكالة تلقت رسالة من وزارة العدل الروسية، تهددها بوقف نشاطها ما لم تلتزم بالقوانين، وتوقف مخالفاتها التي لم يفصح المسؤول عن طبيعتها.
المخالفة الأبرز والأكثر علنية التي يمكن أنْ يجري تفسير الرسالة (بجانبها القانوني لا السياسي) على أساسها، هي تصريحات المديرة التنفيذية للوكالة (أميرة أخرونوفيتش) خلال اشتراكها إلكترونياً في مؤتمر جورازليم بوست السنوي في لندن في الأول من نيسان الماضي، والتي زعمت فيها أنّ: «أزمة اللاجئين اليهود الأوكرانيين هي الأكبر منذ الهولوكوست». وليس صعباً فهم البعد السياسي لهذا التصريح الذي يساوي عملياً بين العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وبين النازية.


الدم اليهودي لهتلر

التصعيد والتوتر الذي تمظهر في إثارة الوضع القانوني للوكالة اليهودية في روسيا، هو عتبة جديدة نوعياً، ضمن جملة من التوترات والتصعيدات في الاتجاه نفسه؛ وليس خافياً أن إحدى محطات هذا التصعيد هي تصريحات وزير الخارجية الروسي لافروف خلال لقاء مع جهة إعلامية إيطالية يوم الأول من أيار الماضي، حيث سأله المذيع عن أنّ الكلام الروسي عن نازية في أوكرانيا، يجري الرد عليه بأنّ زيلينسكي نفسه يهودي، فكيف يمكن أن يكون نازياً؟

في إجابته، قال لافروف: «سمعته يقول [أي زيلينسكي]: إنهم لن يناقشوا حتى نزع السلاح ونزع النازية أثناء محادثات السلام. أولاً: إنهم ينسفون المحادثات مثلما فعلوا مع اتفاقات مينسك لمدة ثماني سنوات. ثانياً: توجد نازية هناك: فالمقاتلون المأسورون وكذلك أعضاء كتائب آزوف وآيدار والوحدات الأخرى يرتدون على ملابسهم صلباناً معقوفة، أو رموز كتائب فافن إس- إس النازية، أو يضعون وشوماً مشابهة على أجسادهم؛ يقرأون ويروجون لكتاب «كفاحي» علانية. حجته هي: كيف يمكن أن تكون هناك نازية في أوكرانيا إذا كان هو يهودياً؟ قد أكون مخطئاً، ولكن كان لأدولف هتلر دم يهودي أيضاً. هذا لا يعني شيئاً على الإطلاق. يقول الحكماء من الشعب اليهودي: إن أكثر المعادين للسامية حماسة هم عادة من اليهود. «كل عائلة لها خروفها الأسود» «كما نقول».
وكما هو معلوم، فإنّ هذا التصريح أثار في حينه موجة من ردود الأفعال الغاضبة، دفعت بالخارجية الروسية إلى إعادة تأكيد كلامها في تغريدة على حسابها الرسمي على تويتر في إطار الرد على يائير لابيد، وفي التغريدة: «تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد، يتناقض مع التاريخ، ويفسر إلى حد كبير سياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية لدعم نظام النازيين الجدد في كييف»، وأرفقت التغريدة برابط حول الموضوع نفسه، أي الدم اليهودي لهتلر، منشورة في التلغراف البريطانية، يتضمن روابط دراسات تثبت هذا الموضوع!
وكان مركز دراسات قاسيون قد أفرد مقالاً لتناول هذا الموضوع، نُشر في 9 أيار الماضي بمعانيه الراهنة في إطار الصراع الجاري، تحت عنوان «اليهودي يمكن أن يكون نازياً».


«التفسيرات» الإعلامية

دارت التحليلات والتفسيرات التي جرى تقديمها لهذا التصعيد، سواء منها الغربية، وضمناً «الإسرائيلية»، أو حتى غير الغربية، حول جملة من الأمور، نلخصها بما يلي:
أولاً: المقصود من التصعيد الروسي هو معاقبة «إسرائيل» على موقفها بما يتعلق بأوكرانيا، سواء السياسي أو الميداني، حيث بات واضحاً وجود دعم متعدد المستويات يتلقاه زيلينسكي ومجموعته من الكيان.
ثانياً: وضع حدٍ لهذا الدعم ومنعه من الانتقال إلى مستوى الدعم العسكري المباشر عبر منظومات أسلحة متطورة مثل «القبة الحديدية» وغيرها.
ثالثاً: محاولة الضغط على «إسرائيل» لاستمالتها بعيداً عن الغرب في مسألة أوكرانيا، وبما يصب في مصلحة روسيا «التي تعيش عزلة دولية».
رابعاً: الضغط على الغرب من خلال الضغط على «إسرائيل».
أي بالمجمل، فإنّ كل التفسيرات تقريباً درات في فلك معركة أوكرانيا، وفي فلك «إسرائيل»، والموقف من كلٍ منهما.

1078-13

سياق ضروري

قبل تقديم رؤيتنا حول التفسير الحقيقي للمسألة، لا بد من الإشارة إلى بضعة أمورٍ منطقية من الواضح أنه جرى إسقاطها من مجمل التحليلات الرائجة:
أولاً: المعركة في أوكرانيا ليست معركة بحدود أوكرانيا، بل هي معركة عالمية حول النظام الدولي القائم، والنظام الدولي الجديد، ولذا فإنّ اختصار التصعيد الجاري «مع إسرائيل»، في حدود الموقف من أوكرانيا، هو بالضرورة تشويه لجوهر الأمر، بل وتضليلٌ عنه.
ثانياً: القول بوجود «تخوفات» في روسيا من دعمٍ إضافي يمكن أن تقدمه «إسرائيل» لأوكرانيا، بما في ذلك الدعم العسكري عبر منظومة القبة الحديدية وغيرها، هو أمرٌ مثير للسخرية بالفعل؛ فروسيا تواجه اليوم الغرب الجماعي بأكمله، وبكلّ منظومات تسليحه التي تتدفق على أوكرانيا، بما فيها السلاح «الإسرائيلي» الذي وصل فعلاً لأوكرانيا.
ثالثاً: عدا عن ذلك، وبالذات فيما يخص الحديث عن «القبة الحديدية»، فإنّ هذه التحليلات هي ضربٌ من العنجهية الفارغة للكيان، والتي يستخدمها في وضعه المأزوم الحالي، محاولاً بالتعاون مع الإدارة الأمريكية المأزومة، بث خرافة «الناتو العربي»، وخاصة في إطار التحضير لزيارة بايدن إلى الخليج العربي، والمحكومة بالفشل مسبقاً؛ إذ حتى دول الخليج العربي، لا ترى في قبة «إسرائيل» الحديدية، سوى ورطة يراد لها أن تقع فيها لتفجير المنطقة، في وقت تتقدم فيه عمليات التقارب الإقليمي بين جميع الدول الأساسية، وتفقد «إسرائيل» أهم دور لها في المنطقة، وبالأحرى دورها الوحيد الذي أقيمت لأجله: أي دور التخريب... ناقشنا هذه المسألة في مادة لمركز دراسات قاسيون نشرت في الثلاثين من حزيران الماضي تحت عنوان: «ما هو الهدف الحقيقي لزيارة بايدن للسعودية؟ خرافة «الناتو العربي»... قنبلة دخانية».


معركة وجود!

بعيداً عن «التفسيرات» التي يجري إغراق وسائل الإعلام فيها، فإنّ هنالك أبعاداً أكثر جوهرية بكثير بما يخص التصعيد الجاري، وأهم محددات هذا الجوهر هي المسائل التالية:
أولاً: لا يمكن لأية دولة التعامل مع «إسرائيل» إلا بوصفها جزءاً عضوياً من المشروع الغربي بأسره، وضمناً كجزءٍ من النظام الدولي الذي تجري الآن الإطاحة به؛ أي أنّ شتى التفسيرات والتحليلات التي تتعامل مع «إسرائيل» بوصفها دولة طبيعية، أو «دولة قائمة بحد ذاتها» ويمكنها أن تنتقل بين المحاور الدولية، أو أن توازِن بينها، هو ضربٌ من القصص الخيالية لما قبل النوم. فهذه «الدولة» موجودة بوصفها مشروعاً وامتداداً لمشروع غربي، إلى ذلك الحد الذي لا يمكنها فيه أن تستمر في البقاء في حال انحسر ذلك المشروع... ولذا، فإنّ التعامل الروسي مع هذه «الدولة»، لا يمكن له أن يتم خارج هذا التشخيص، وذلك بغض النظر عن المستوى الدبلوماسي والإعلامي الذي يتم من خلاله تناول المسألة.
ثانياً: إضافة إلى كون «إسرائيل» امتداداً للمشروع الغربي، فإنّ ما هو أكثر أهمية، أنها امتدادٌ بالذات للمشروع الأنغلو- ساكسوني، وللكتلة المالية الصهيونية ضمنه؛ أي بالذات للمشروع الذي تجري الحرب الروسية اليوم ضده؛ لأنّ هذه الكتلة وهذا المشروع، هما المهدد الأول من العمل الروسي الصيني على ضرب الدولار وعلى ضرب منظومته العالمية... وبهذا المعنى، فإنّ أي حديث عن «حيادٍ إسرائيلي»، أو عن محاولات موازنة، أو انحيازٍ جزئي لأوكرانيا، هو مجرد تعميةٍ عن واقع الحال.
ثالثاً: ما لا ينبغي أن يغيب عن البال لحظة واحدة، هو أنّ «الوكالة اليهودية» هي الشركة الأم، و«إسرائيل» هي أحد فروعها، وليس العكس. والمواجهة مع الوكالة اليهودية وإنْ كانت تعني ضمناً مواجهة مع «إسرائيل»، لكنها أكبر من ذلك بما لا يقاس في جوهرها؛ فهي مواجهة مع معلم «إسرائيل»، أي مع الصهيونية العالمية، كجزء من المواجهة الشاملة مع المنظومة الأنغلوساكسونية الدولارية.
رابعاً: في السياق نفسه، فليس خافياً الدور الصهيوني الخطير في تفكيك وتدمير الاتحاد السوفييتي، بل وفي العمل ضده منذ 1917 وحتى قبل ذلك... وضمن ما بات مكشوفاً حول هذا الدور تاريخياً، ليس فقط المساهمة الأساسية في تخريب الاتحاد السوفييتي وتفكيكه، بل وأيضاً في العمل لتخريب الحركة الشيوعية العالمية، وكذلك العمل ضمن منطقتنا عبر «المشروع الإسرائيلي» التخريبي... وإنْ كان ذلك «تاريخاً»، فهو مستمر حتى الآن، وليس خافياً ضمنه، أنّ للصهيونية نفوذاً غير قليلٍ في روسيا الحديثة، أحد أهم تمظهراته هو قسمٌ كبير من الأوليغارك اليهود الذين يضعون يدهم على موارد هامة في روسيا، بل وعلى قسم من أهم الوسائل الإعلامية فيها... أي أنهم يمثلون شبكة كبرى من «عملاء النفوذ» في روسيا. كما هو واضح، فإنّ الغرب عاجزٌ عن تكبيل روسيا وضربها وإنهائها من الخارج، سواء بالوسائل العسكرية، أو الاقتصادية أو الإعلامية أو الدبلوماسية أو غيرها؛ ولذا فإنّ الوسيلة الوحيدة التي يمكنه اللجوء إليها هو تفكيكها من الداخل؛ وهذا الأمر بات علنياً في تصريحات وتحليلات العديد من الوسائل الإعلامية الغربية... وهنا يأتي دور الصهيونية ممثلة بالوكالة اليهودية، والتي تقع على عاتقها اليوم مهمة أن تكون رأس حربة في عملية تفكيك روسيا من الداخل، وباستخدام الوسائل الاقتصادية والثقافية الإعلامية بالدرجة الأولى. ولأنّ هذا الأمر واضح، ولأنّه لا يمكن لدغ روسيا من الجحر ذاته مرتين، فإنّ عملية ضرب هذه الأوليغارشية قد بدأت فعلاً، ومصيرها الحتمي هو أن تشتد وتتعمق وصولاً لاستئصالها كلياً...
بالمحصلة، ورغم كل محاولات التضليل والتعمية للقول بأنّ التصعيد المتبادل هو بين روسيا و«إسرائيل»، فإنّ جوهر المسألة هو المعركة الداخلية التي على روسيا خوضها حتى النهاية، وعلى أراضيها بالذات بالدرجة الأولى، لأنها وإنْ كانت معركة تغيير للنظام العالمي من جهة، إلا أنها من جهة أخرى، وبما يخص روسيا نفسها، هي معركة وجود قبل أي شيء آخر...

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1078
آخر تعديل على الإثنين, 11 تموز/يوليو 2022 16:39